آخر الأخبار

جبل شدا.. صخرةٌ تروي حكاية الأرض

شارك

الباحة: أسماء الشهري

في أقصى غرب منطقة الباحة، يقف جبل شدا كأنه جدارٌ من الأسطورة، يعلو فوق السهول وينحدر نحو تهامة في مشهدٍ يبدو خارج الزمن. لا يشبه شدا أي جبلٍ آخر في المملكة لا في لونه الداكن المائل إلى الزرقة، ولا في تكوينه الجيولوجي النادر ولا حتى في الصمت الذي يلفه كأنما يرفض البوح بأسراره.


يرتفع شدا عن سطح البحر بأكثر من ألفي متر، وتغلفه طبقات من الصخور الجرانيتية التي تشكلت قبل مئات ملايين السنين. الصخور الملساء الداكنة تلمع مع ضوء الشمس في ساعات النهار الأولى، فيبدو الجبل ككتلةٍ من الفيروز الصخري. أما في المساء، فيتحول إلى ظلٍ أزرق يحتضنه الغيم، وكأنه يختفي تدريجيًا داخل نفسه.
الطريق المؤدي إلى القمة متعرج، لكنه يكشف عن مشاهد لا تُنسى مدرجات زراعية خضراء، ووديان تنحدر نحو تهامة، وتكوينات صخرية كأنها منحوتة بيد فنانٍ دقيق.
يُعد جبل شدا واحدًا من أقدم التكوينات الصخرية في الجزيرة العربية، وتدل طبقاته على تاريخٍ جيولوجي يمتد إلى عصور ما قبل الإنسان. فالصخور التي تغطيه هي نتاج انفجاراتٍ بركانية وانكساراتٍ أرضية قديمة، جعلت منه كتابًا مفتوحًا لتاريخ الأرض، تقرأ صفحاته في خطوطه وطبقاته المتعرجة.
ورغم قسوته الظاهرة يحتضن الجبل بيئةً فريدة من نوعها. نباتاتٌ جبلية تنمو بين الشقوق، وأشجار البن والعرعر والموز تتقاسم المساحات الضيقة في المدرجات الزراعية في مشهدٍ لا يجتمع عادة في مكانٍ واحد.
هنا يتجلى التوازن النادر بين المناخ الجبلي والرطوبة التهامية مما يجعل شدا منطقة بيئية غنية ونادرة التنوع.
ويشتهر الجبل بإنتاج عسلٍ فريد يُعرف باسم “عسل شدا”، يمتاز بلونه الذهبي الداكن ونكهته الغنية. هذا العسل هو ثمرة طبيعية لتنوع النباتات في الجبل، ولنقاء بيئته التي لم تمسها الملوثات. وهو اليوم من المنتجات التي تحمل هوية المكان وتروي قصته في كل قطرة.
وتحول جبل شدا إلى محمية طبيعية منذ سنوات، لتصبح واحدة من أبرز وجهات السياحة البيئية في المملكة. وتخضع المنطقة لضوابط تحافظ على تنوعها الحيوي وتوازنها الطبيعي، في محاولة لعدم كسر عزلة الجبل التي حافظت على نقائه عبر العصور.
وتعمل الجهات المختصة على تطوير مسارات سياحية بيئية محدودة تسمح للزوار باكتشاف الجبل دون المساس بخصوصيته البيئية.
ليس في شدا صخب المدن ولا ازدحام الزوار بل هدوءٌ يذكّر المرء بأن الجمال لا يحتاج إلى ضجيج. الجبل يفرض حضوره بالصمت ويمنح زائره شعورًا بأنه أمام شيءٍ أقدم من الحكايات وأبقى من الذاكرة.


في هذا المكان يبدو الزمن وكأنه يتباطأ احترامًا لعراقة الجبل الذي ما زال يقف هناك يحرس ذاكرة الأرض ويكتبها بصخوره.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.