آخر الأخبار

حكاية التاج الأحمر والوطن الأخضر

شارك

عبد الوهاب البراري ـ تونس

حالما تجتاز باب البحر أحد أبواب المدينة العتيقة في تونس، سواء كنت سائحا أو أحد أبناء هذه الأرض الطيّبة، يتغيّر كلّ شيء أمامك، تختفي كلّ وسائل النّقل وتتقلّص مساحة الشّوارع لتتحوّل من ممرّات متوازية مخصّصة لزئير السيّارات وأصوات منبّهاتها الى أزقّة ضيّقة ذات أرضيّة ملساء بلون داكن صقلتها أقدام المارّين عليها منذ آلاف السّنين، جنسيّات تداولت عليها وحضارات مرّت من هنا ولم تندثر.

حضارات تركت نقوشا على جدرانها الحجريّة وعلى أبوابها ذات اللّون الأزرق أو البنّيّ، وكلّ ما فيها يحكي تاريخا من زمن الموريسكيين أو الدّولة الحفصيّة وربّما الحسينيّة…
تختفي منبّهات العربات لتحلّ محلّها أصوات الباعة في هذا السوق الذي يأخذك بألوان بضاعته المعروضة ورائحة البخور والجلد الى تاريخ بعيد، فينتابك شعور لذيذ لا يوفّره لك سوى هذا الزّقاق الضّيّق بكلّ من فيه وما فيه.


باعة يقفون على عتبات دكاكينهم يدعونك لزيارة محلاّتهم، دعوات بكلّ لغات الأرض وعبارات ترحيب مع ابتسامة لا تفارق وجوههم.
يحتار السّائح أو الزائر أين يوجّه بصره؟
ألذلك الشّاب المنكبّ على طبق من النّحاس الأصفر الذّهبيّ، مثبّت بإحكام على طاولة مستديرة صغيرة، بين أنامله مسمار يسحبه في اتجاهات مدروسة تحت نقرات مطرقة صغيرة بيده الثانية، يتوقّف بعض المارّة وخاصّة السوّاح منهم يتابعون نقرات مسماره ليظهر لهم على مساحة الطبق مشهد صحراوي أو علم الوطن يصاحبه علم اخر.


سواح من أغلب جهات الأرض، ولغات تسمعها لأول مرّة فلا تفقه من بعضها شيئا، نساءٌ من مختلف الأعمار بعضهن يجهّزن عروسا يقتنين لها الحناّء وتشكيلة من البخور وبعض المستلزمات الّتي لا توجد سوى في هذا السوق….
شيخ يمر وسط الزّحام بخطى بطيئةٍ وفي هدوء الصّالحين، وبلحيته البيضاء التّي تضفي عليه وقارا يجعل بقيّة الماّرين يفسحون له المجال وكأنّه السلطان عبد الحميد في أوج سطوته، يردّ على تحيات أصحاب المحلّات بابتسامة ملائكيّة من الزّمن الجميل، جبّته بلونها الأبيض الهادئ مطرّزة على جانبيها بخيوط من الحرير البنيّ في أشكال فريدة لا يرسمها سوى القليل من طرازّي الجبّة في هذا السّوق، ونقرات عكازه تتناغم مع خطواته كتناغم حركات مايسترو يقود معزوفة على مسرح قرطاج أو ركح جرش في وطن النشامى…

هذا الزقاق يتحوّل بمساحته الضّيّقة إلى مكان تجتمع فيه أجناس مختلفة ولغات من أوطان شتى يقودك إلى زقاق متفرع عنه أكثر هدوء وأقلّ ازدحام، إنّه سوق الشّواشين.
عالم آخر واختصاص آخر وتاريخ آخر، فلا باعة يمدحون بضاعتهم ولا نسوة يجادلن البّاعة في أثمان مقتنياتهنّ فلا مكان لهذا السّوق إلاّ لرجالٍ من الجيل الأول تجاوز أغلبهم عقده الخامس، يتوقف بعضهم أمام بضاعة معروضة داخل محلاّت ضيّقة… إنّك في حضرة الشاشيّة التّونسيّة، ذلك الطربوش الأحمر القرمزي.

سوق الشواشّين القريب من جامع الزّيتونة ذلك المعلم الدّيني الذّي أسّسه القائد حسّان ابن النعمان سنة 698 ميلادي هو زقاق ممتد مسقف تنتصب على جانبيه دكاكين لحياكة الشّاشية والجبّة ذلك اللّباس التّقليديُّ الذّي يضفي على لابسه وقارا وهيبة بين الرّجال خاصّة إذا كان مصحوبا ببرنس مصنوع من صوف الخرفان يدليه الرّجل على جُبّته.
لمن لا يعرف الشّاشيّة يخبرك عنها السيّد رياض بن يوسف ذلك الطّبيب الذي ترك مهنة الطّب ليعيش مع الشّاشيّة وبها كحرفة ورثها عن والده وورث الدّكان معها فأصبحت الشّاشيّة عشقه الذّي لا يحيي ذكراه فحسب، بل يضمن استمرارية ذلك الإرث الذي تركه له وفي قلبه فخر لا ينتهي.
يعود أصل الشاشيّة إلى الأندلس وقد جلبها العرب إلى تونس زمن خروجهم من منقطع النّظير حتّى أصبح رمزا لهويّة وطن حنبعل القرطاجني وأرض ابن خلدون وأبي القاسم الشّابي.

أمّا مراحل صنع الشّاشيّة فتبدأ بعمليّة دقيقة لا يتقنها سوى العارفون بأسرارها: تمشيط الصوف النّاعم بعناية ثمّ تنظيفه بمواد طبيعيّة وتجفيفه بعد ذلك في مكان لا تخالطه الأتربة، كل هذا العمل يتم تحت إشراف صاحب المحل الذي يكون قد تمرّس على الحياكة لعشرات الأعوام وله مع الشاشّية قصص وحكايات، تاريخ طويل وإرث من زمن أجداده، ألِفَ أدواتها إذ يكفيه أن يتحسّسها بأنامله دون أن يخطئ فيما يريد استعماله منها.

كثيرا ما يكون جالسا في مكان مرتفع بعض الشيء عن أرضيّة دكّانه كأنّه أحد الْبايات في بلاط حكمه، لا يغادر عرش عمله إلاّ لأداء صلاته في جامع السّوق.
يساعده في عمله أحد الشّبان ممن انخرط في تعلّم هذه الحرفة.
الهدوء يخيّم على المكان، تخال نفسك في أحد المعابد من زمن الاغريق، وأحيانا أخرى تتهادى إلى سمعك مدائح وأذكار تنبعث من مذياع قديم من أيّام الأجداد، وحينما يداعب الحنين قلب الشّواشي ويعود به الى ذكريات الشّباب تسمعه يدندن بصوت رخيم يرافق إحدى المقاطع من أغنياتٍ للسيّد درويش أو إبداعات شيخ الأغنيّة السعوديّة جميل محمود.

وحين يزور محلّ الحاج بعض السّائحين، يكون له موعد مع الابتسامة والاستبشار، يرحب بزوّار المحل بكلمات حفظها عن ظهر قلب ثم يسترسل في الحديث معهم بلغّة وطنهم فقد ورث ذلك الأدب والاحترام عن والده حينما كان صبيّا يتعلّم فنون الحياكة.
لا يغادر هؤلاء السّياّح الدّكان إلاّ وقد اقتنوا بعض ما عرضه الحاج محمّد عليهم وكأنّهم قد حصلوا على شيء نادر يحتفظون به كذكرى تخلّد زيارتهم لهذا الوطن الغنيّ بتاريخه وتراثه وطيبة اهله، وكثيرا ما يحدث ان يتوّج الحاج أحد زوّاره بأن يضع على رأسه شاشيّة فتكون هي ذلك التّاج الأحمر في هذا الوطن الأخضر، لا غرابة في ذلك فقد كان البايات زمن الدّولة الحسينيّة يتوجون أنفسهم بالشّاشيّة عوضا عن التّاج، فأصبحت بحسب التقاليد تاجهم ورمز هويتهم ومن العيب ألاّ يضع التّونسيٌّ شاشيّة تغطي رأسه.
وهكذا تكون الشّاشيّة تاج الملوك والبسطاء في تونس،
فهل سمعتم بوطن كلٌّ أبنائه متوجٌون؟

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *