“أكلةُ الزّمان اللّذيذ” (كسكسي بالزّبيب عرس قمر الأربعتاش) | مجلة السياحة العربية .. #السياحة_العربية

0

بقلم : ا.عمار التيمومي 

…يستقرّ بالرقّوبة الحمراء “الأمّاغير” أساسا وهم فرع مهمّ من أولاد خليفة ثالث بطون جلاص وأهمّها من حيث كثرة الألقاب والأسر المنتسبة. وهم قوم أشاوس ما شذّوا عمّا عرفت به جلاص. فبعضهم فرسان اهتمّوا بتربية الخيل والحفاظ على جودة سلالة الأفراس كدار بن عطية. وبعضهم رعاة مواش يحفظون دروبها وما يليق بها من كلإ وسِقاء. ويحفظون مواعيد رغبة الأمومة لديها وأشهر حملها وساعة ولادتها وتطبيبها ورعايتها وكيفية جعلها أدوات لتيسير الحياة غذاءً وملابسَ ومفارش وأغطية. فيستغلّونها كأفضل ما يكون ويوجّهونها في مواضع نفعها.

وحديثا اهتمّ قسم منهم كبير بخدمة الأرض وجعلوها خضراء بمغروساتهم وزراعاتهم. فسواعدهم لا تعرف الملل.وألسنتهم لطيفة. وبيوتهم كريمة. وأنوفهم شمّاء. وسرعان ما تغلي رؤوسهم غضبًا. فينقلبون غلاظا شدائد قُساة.لكنّهم ما أعجل ما يهدؤون لتلطّف أوترقّق او ترفّق. ظاهرهم طبع مُجافٍ كطبيعتهم ومخبرهم حنان أمّ رؤوم.

ينتشرون في الأرض جادّين نشيطين حتّى يُلينوا صخرها. ويشقّون بطنها تعقّبًا لأثر عروق نبت النّجم الضارة يستأصلونها.فتُضحي حُقولهم مِهادا لإنماء الغرس والزّرع والفوز بثمر يُغري منظره ويلذّ مأكله ويُفيد الأجسام السّمراء الفارعة.

وعائلات الميغري كثيرة لعلّ الصّبيّ يذكر منها أسرًا عديدة. فما إن تتجاوز النّفيضة العتراء حتّى تَميدَ بين دواوير وحومات. فالماغير لا يسكنون إلا أكماما أكماما كبنات العنب. فتُلفي أولاد ڨراش والبخارصية والحفايظية والهذاولية واولاد بن عطية والبڨّارة والبراهمية والزّماملية وأولاد عبّاس ودوّار بالوصيّف والخضاورية والبشايرية وأولاد بالجيلاني واللّوايثية ودوّار عليّة … تتفرّق هذه الدّواوير حول الرقّوبة الحمراء تنشد شموخها. وتظلّ تربطها أسباب وأنساب.فتجتمع هذه الأسر في الأفراح والمُلمّات. وتهبّ للنّجدة أو الخصام هبّة رجل واحد.وتظلّ الجباه منهم عالية عصيّة عن التّطويع والإذلال.

يذكر الصّبيّ أنّ ذاكرته نسجت صورة لرجل أنموذج تهابه العيون وتوقّره الحركات. كان بهيّ الطّلعة وقورًا. أحمر الوجه من أثر النّعيم. اشتعل رأسه وقارا نقيّا كالثّلج. هندامه لا يختلف في شيء عن أعلام التلفزيون المرموقين وقتها. كان يقود التّعاضد وعمّاله بمزارع نومرو تسعة. يسعد المكان لمقدمه وتتهامس الأصوات لحضوره بين موقّر وحسود. هادئ الصّوت والطّباع إذ هو يملك ما يقول ولا تضايقه ضائقة العبارة. فهو كليم في غير تبجّح ،آمر في غير تعنّت ،كريم في غير منٍّ. بسّام دونما تهتّك. بشير بلا تعالٍ. وضّاح بلا فضح. شجاع دون تهوّر. يحكم أعماله ومساعديه بالإشارة قبل العبارة،وبالعبارة قبل سوط السّلطة. يحترمه الموسر والفقير. وبكت فقدَه عيونٌ صادقةٌ . ومكرت باسمه قلوب ضيّقة ورؤوس متقلّصة. ساد فجاد.وقدر فماد. ورحل وما عاد.. ارتبط أحمد بن الهادي بن خضر بكريمة المقاوم الجيلاني غزال. وكانت علجية هذه وفيرة الدّلال والبهاء. قصرت عين إلفها عن باقي النّساء. وكانت سيّدة كرم وهيبة. اللّيلة يُحتفى بقمر الرّابع عشر من رمضان.ودأب أهل جلاص إكرام وفادة النّساء لاسيما العرائس منهنّ.وطبق العروس كسكسي بالزّبيب ولحم الضّأن قطعًا ما لم يكن مسلانا.

يد أحمد بن خضر قريبة إلى موسى بوسعادة ككلّ أسياد الجهة إن قاربوا الخراف في المناسبات. يطرح الخروف يذبحه ويسلّمه إلى خضر والزّيتوني فيسلخانه ويقطعانه قطعا تليق بالكسكسي. فيسلّم رُبعه إلى السيّدة: علجية.ويوزّع الباقي بين المشتاقين إلى عبق لحم الضّأن.-وما أكثرهم!-.

تضع ذهبيةُ الأقراطِ اللّحمَ في قصعة من عود وتصبّ عليه ملاعق من معجون الطّماطم وبهارات تسلب لبّ الجائع.ثم تضع قِدرا ملئ شطرُها ماءً، وتقصّ فيه بصلا وتصبّ مقدارا من زيت الزيتون المخزون ببرميلين ببيت مؤونتها.ثمّ تصبّ اللّحم وما معه في حمّام القدر. وينطلق البخار في الفضاء ليُعابث شهوات الصّائمين. وتأخذ حفنتي حمّص -والحمّص وفير- وتضعهما في قدر أصغر في ضعفهما ماء.ً وتحرص أن تضع عود قرنفل مجفّف مع الحمّص لتعبق الأجواء وتُعذّب البطون. أما الكسكاس فقد توّج جبين القدر وقد ملئ كسكسيا ذهبيّا يُلينه البخار العطر.

جهز العشاء. فتحطّ علجية كلّ الكسكسي بصحن كريم.تفرّك حبّاته عن بعضها وتسقيه على دفعتين من مرق يأسر الأنف والعين واللسان.ثمّ تسوّيه وتصبّ عليه حبات الحمّص المغريات وقد اختلطت بزبيب جوريّ اللّون عسليّ المذاق. ثم تحلّ كل قطع اللّحم بالسّطح. وهي بالكاد تترك فرصة الظهور لحبّات الفلفل الأخضر مقلية. وتقدّم القصعة على رأس المائدة و قربها إناء مليئ زبدةً ومشارب تتماوج لبنا. فقد دعا زوجها اليوم الصفاقسي والساحلي والباجي للعشاء عنده باعتبار نأيهم عن أسرهم و غربتهم… للّه ما ألذّ العطاءَ!. وأطيبْ به من دأب!…والقصعة للأمّاغير…

Leave A Reply

Your email address will not be published.