مقالات

أكلة من مروج الصّبا .. (الملثوث بالرّاس وجبة الأرستقراطية القديمة) | مجلة السياحة العربية .. #السياحة_العربية

بقلم _ عمار التيمومى 

كان البايات يعتقدون أنّه كلّما احدودبت أرضٌ قسا رجالُها. فكانوا أشدّاء يُعوّل عليهم في الحروب لذا كانوا ينتخبون جُندهم من أعالي الكاف وما لفّ لفّها.. وبعد مُضي سنتين أو ثلاث ترقّ حالُهم. فيُضحون من البَلدِيّة مرهفي الأفئدة أنيقي الملابس مهذّبي الطّباع. فيُستغنى عن خدمتهم. ويُستبدلون بأشاوس جُدُد وهكذا دواليك..

وُلد منصور الماني لأب أشقرَ قدم من الشّرق. فبَهَر أبناء الكبّارة وبناتها واعتقدوا أنّه من الرّوم فنادوه اعتباطا بالألماني. وهو في الحقيقة شابّ شرس يُتقن الهِراشَ. اُستُعين به في حرب الشّام المقاومة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ. وحين قفل راجعًا ، كان مجلسه يزدان برفقة شُبّان أقوياء البنية فارعي النّواصي. فالحاج سليمان نقيّ المخبر كثير الصّلوات والأوردة ،محلّ ثقة كلّ الجهة حيًّا وميتًا. أمّا الشّاوش عبدالله فهو شخصية كارزماتية تجمع مواقف قبيلة الجمال. ومِنسأته (عكّازه) حاكمة قاضية بينهم. لا يُردّ له رأي ولا أحد يجرؤ على عناده رغم لطافته.. فالحكمة يا سادة سيّدة المجالس وسلطة السّلطات. أمّا اعبوده بن خميس فقد كان طفلا في هؤلاء يرافقه التّهامي بن الشّاوش في مغامرات النّهار إثر الفِكاك من الرّعي.فيصيدان الحمائم والحجل بلا شِراك ولا سلاح، فقط خفّتهما بمعونة الشّمس البارقة تُعشي الطريدة حتى ترفرف بين كفّيهما. أمّا علي بلعزاعزة فهو فارس الجهة يُعنى بفرسه أكثر مما يُعنى بشاربيه وحبيبته القيروانية …

اليوم كُتب على الشابّ منصور الماني أن يدعو شيوخ الجهة من بني عمومته على قصعة من العود للملثوث البربريّ… للشّعير سنابلُ وطيئة تتكفّل بجمعها أمّه حَدّة وصويحباتها مثل ريم شهلاء العين و مبروكة وأم الهناء. فينشطن في قطف السّنابل المتناثرة بأرض برقاء غليظة بها حجارة ورمل وطين قرب القصر (قصر الجمال وهو أثر دارس استُخرجت من حوله زخارف و جرار واللّه أعلم بما خفي). وما إن يَحلّ الضّحى حتى يَعُدن بها في أحزمة عظيمة على ظهورهن. فيدققن أعناق السّنابل بمطارق لا تعرف الرّحمة، وألسنة النّسوة لا تكفّ عن أنغام الصّبابة والهجر التي تخفينها عن آذان سادات القوم فكانت أصواتُهن ترتفع في شبه خفر:

مارڨا في سَيَّا (سنة؛هيئة) ريت البيضا مارقة في سيّا قتلت ولد النّاس عيونو حية وخيتي ما أجملها من جبل زغوان بان عضلها وكان جيت راجلها ندفع مالي واللي يهون عليا

…ثم تجتهد النّسوة في تصفية حبّات الشّعير وتنقيتها من الشّوائب. ثمّ تدققنه في مهراس خشب للتّخلص من السّفافات العنيدة المتشبثة برأس الحبّات وتذرينه للرّيح

قبل الأوبة إلى دار الماني حيث الرّحى. ولعلّ الرّحى كانت من أمارات ثراء البيوتات وعراقتها. فهي لا تتوفّر عند الكثيرين. بل إنّ غالبية السّاكنات يحجزن دورا لهنّ في رحى المُوسرين..

وينطلق الرّحيُ ولا تسكن الأصوات الهازجة بالأغنيات اللّذيذة لذّة قطف ثَمر من سانية “بالمتهنّي” المحروسة… حبّ الشّعير لا يعرف القسمة إلاّ على ثلاثة: نُخالة ودشيش ودقيق. ولا تتطلّب غربلتُه غيرَ مِنفضة الحديد وغربال الأمعاء. وتسويته يسيرة يُسْرَ زرعه وحرثه ونُضجه وحصاده ودراسه وتنقيته. فهو رغم عميم فائدته يظلّ يسير المنال..

تأخذ الأمّ حدّة مِلْءَ نِصف كسكاس دشيشا ترشّه بماء فاتر ثم تصبّه بكسكاس خزفي من طينة بُرمته التي أوقدت من تحتها أثافيّا ،مَدَدُ ناره، مُهمل الأغصان وبقايا تِبن و”جَلّة”.

أمّا مرق قدر البرمة فهو نصيب من زيت الزّيتون وحبّات طماطم عزيزة المنال وحبّتا بصل مشطورتان في أربع وتوابل وبهارات وفلفل وخردل وثوم وجمهرة ممّا تيسّر من بقول من حمّص وفول وغيرها…

قد كانت حدة شوت رأسي خروفين حتى تبسّما. وكَشطت من عليهما كلَّ بقايا الصّوف المحروق ويداها الماهرتان تديران الرّأس في اللّهب حتى تخلّصه من كلّ الزّغب. ثمّ تغسل الرأسين في حمّام ساخن بمساعدة السّكّين فيُضحي الرأسان ذهبيّي اللّون.

ثمّ تفلقُهما أقساطا أقساطا. ولكلّ لحمة من الرأس صاحبها معلوم. فالحنك للأسياد والأذن للنّساء والعيون والأنوف والأرجل للصّبيان. تُضيف الخالة حدّة اللّحم في القدر. فيكاد يملأه. وتأخذ ابريق ماء المطر. وتصبّ منه في القدر حتى يَعُمّ لحم الرّأس وتحرّكه بملعقة العود الكبيرة. فتنشأ الرّائحة في الانبعاث في المطبخ ومحيطه. ثمّ تضع الكسكاس موضعَه. هي ليست بحاجة إلى قفيلة. فالكسكاس من جنس البرمة. والوئام بينهما تامّ. فلا بذور ولا ثقب ولا شقاق بينهما. فالبخار حتما سيمضي إلى الدّشيش يُلَيّنه ويطبخه حتى يليث وتلتفّ حبّاته بعضها ببعض. وما إن يفور منها بخار حتى تَنْتبهَ السّيّدة إلى وجوب سِقاء الدّشيش. فتُنزل الكسكاس لتسقيَهُ بماء ساخن أعدّته بجانبها. ثمّ تُعيده إلى جبين القدر ليكون تاجا لها. وتتواصل رحلة الفَوَرَان. ورسائلُ البُخار من البرمة إلى الكسكاس لا تهدأ إلى أن يفور ثانية. فتُنزل انتاجَ جُهدها. وتُفرغ ما به في المعجنة وتتعهّد حبّات الملثوث بالتّفريك بواسطة الملعقة العظيمة ،وهي في الأثناء تُلقي نِظرة على لحم الرّأس لتتأكّد من نضوجه. وحين ينضج يكون السّقاء وقد آبت الأرجل الجائعة الى البيت بعد أن حلّ به الأضياف.

فتحمل السيّدة حدّة قصعة اللّوح. وما إن تبلغ باب مطبخها ،تنادي:

– ” وا ابن غليون”. فيأتيها شابّ فاحم الشّعر يأخذ القصعة من يديها وقد هلّت أساريره. ويذهب بها إلى حلقة الأسياد يستطيبون صنيع يديها ويُثنون عليها بدعوات صلاح الذرّية. أما الصِّبْية والنّساء فقد تحلّقوا في العراء حول المِعجنة الكِبرى والأيادي الصاعدة باللّقمات لا تهدأ.. رحم اللّه أيادٍ قدرت على صنع لذائذ لن تُفارق حُلوقَنا ما حيينا. وتسيلُ الغُدد اللُّعابية بأخلاط أمواهها اللّزجة .

60338616_452018362213853_2609379016720777216_n

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى