مقالات

مسجد الملكة صفية .. بقلم”م” طارق بداروى

مسجد الملكة صفية

تزخر مصر بالعديد من الأماكن والآثار التاريخية التي يجهل الكثير من المصريين تاريخها الحقيقي في ظل عدم إنتشار الوعي الأثري والتاريخي ولذلك علي من يستطيع المساهمة في نشر الوعي لدى المواطن المصري بتاريخ بلاده من خلال آثارها ألا يتأخر عن أداء هذا الواجب ومن الآثار التي يجهلها الكثيرون مسجد الملكة صفية الموجود في ميدان الملكة صفية بالداودية قرب شارع محمد علي بحي الدرب الأحمر بالقاهرة والذى يتبع منطقة آثار جنوب القاهرة والذى بدأ بناؤه عام 1019 هجرية الموافق عام 1610م على يد عثمان أغا بن عبد الله أغا دار السعادة مملوك الملكة صفية والذى توفي قبل أن يكمل بناءه فعهدت الملكة صفية إلى عبد الرزاق أغا برفع دعوى أمام القاضي تفيد أن عثمان أغا كان عبداً لها ومملوكًا ولم تعتقه وبهذا لا يحق له تسجيل المسجد بإسمه وبالفعل صدر الحكم الشرعي لصالح الملكة فقامت بتعيين إسماعيل أغا ناظرا شرعيا على أوقاف المسجد وكلفته بإتمام البناء فأتمه وكتب اللوحة التذكارية التأسيسية وثبتها فوق الباب الأوسط للقبة وكانت الملكة صفية في الأصل تنتمي إلي أسرة بافو النبيلة في فينيسيا بإيطاليا وقد ولدت في عام 1550م وكان أبوها حاكما لجزيرة كورفو اليونانية وكانت هي إبنته الوحيدة وكان إسمها صوفيا وإهتم والدها بتعليمها تعليمها جيدا فمرت بأسمى مراحل التعليم ثم حدث أن خرجت في رحلة بحرية علي متن إحدى السفن بصحبة بعض صديقاتها من السيدات النبيلات في طريقها إلى والدها وتعرضت السفيتة لعملية قرصنة بحرية وكانت وقتها في سن الرابعة عشرة من عمرها وكانت فائقة الجمال وإستقر بها الحال إلى أن بيعت وألحقت بالقصر الملكي بحريم السلطان مراد الرابع في إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية .                 

thumbnail (1)                                          

 وتقربت الفتاة ذات الأربعة عشرة ربيعا من السلطان مراد الثالث ولفتت نظره بجمالها الفائق وشخصيتها المرحة فتزوجها في عام 974 هجرية الموافق عام 1567م وسميت بالملكة صفية بدلا من صوفيا وإشتهر لدى أهل العاصمة إسطنبول آنذاك أن السلطان مراد الرابع مولع بمجالسة الملكة صفية والتداول معها في شؤون الدولة العليا وصار كل أمر سلطاني ينسبه العامة لمشورة أو رغبة الملكة صفية والتي ولدت بعد عدة شهور للسلطان مراد الرابع ولد ذكر اصبح بعد ذلك السلطان محمد خان الثالث حيث كان للسلطان مراد الرابع عدد 18 إبنا غير أشقاء لإبنه من الملكة صفية وفي أواخر أيام السلطان مراد الرابع داهمه المرض وأصبح علي مشارف الموت فدبرت الملكة صفية مكيدة تخلصت بها من هؤلاء الأخوة الذكور غير الأشقاء لإبنها محمد خان الثالث ومالبث أن توفي السلطان مراد الرابع فتولي إبنها محمد خان السلطنة عام 1595م ومن جهته لم يعترض السلطان الجديد محمد خان بن مراد على فعلة أمه عندما علم بها ليس فقط لأن والده سبق وأن فعل نفس الأمر مع أخوته لكن قبل ذلك وبعده لأن الفقهاء كانوا قد منحوا السلاطين فتوى بجواز قتل من يظن أنه قد يفجر صراعا حول وراثة العرش قد يتسبب في فتنة لا يعلم إلا الله مداها و قد زاد نفوذ الملكة صفية في عهد إبنها السلطان محمد خان الثالث خاصة وأنها كان لها الفضل الأول في توليه السلطنة ولعبت دورا هاما في سياسة الدولة العثمانية آنذاك حيث ظلت الملكة صفية تتحكم بأمور الدولة وتسيرها كيفما شاءت طيلة فترة حكم إبنها وعندما توفي حاولت أن تهيمن على حفيدها أحمد الثالث ولكن الأخير أبعدها عن البلاط السلطاني وعزلها في قصر منيف شيده لها على ضفاف البسفور وحين عزلت شرعت الملكة صفية في البحث عن وسيلة تخلد بها ذكراها وتكفر بها عن ذنوبها بعد أن أفل نجمها وغلت يدها عن كل سلطة ووجدت ضالتها في بناء مسجدها بالداودية قرب شارع محمد علي بالقاهرة موضوع هذا البحث ويبقى هذا المسجد عنوانا على المرأة التي تستحق في تاريخ السلطنة العثمانية أن يطلق عليها لقب المرأة الحديدية .

ومسجد الملكة صفية هو ثالث مسجد بمصر تم وضع تخطيطه على مثال الجوامع العثمانية في إسطنبول وكان أولها مسجد سليمان باشا الخادم بالقلعة وثانيها مسجد سنان باشا في حي بولاق ويلي مسجد الملكة صفية مسجد محمد بك أبو الذهب وأخيرا مسجد محمد علي باشا بالقلعة ومسجد الملكة صفية مصمم على شكل مستطيل ينقسم إلى قسمين الشرقي مربع في وسطه ستة أعمدة من الجرانيت تحمل عقوًدا حجرية تحمل فوقها قبة كبيرة وهي من أندر القباب العثمانية في مصر ويبلغ إرتفاعها 17.6 متر ويحيط بدائر رقبة هذه القبة شرفة لها درابزين من الخشب الخرط وفتح بها شبابيك من الجص المفرغ المحلى بالزجاج الملون يصل عددها إلي 24 شباكا هذا وتحيط بالقبة المركزية أربع قباب صغيرة محمولة هي أيضا على عقود حجرية .                                                  

والجدار الشرقي للمسجد وهو جدار القبلة بارز من منتصفه عن الضلع الشرقي للمربع وبهذا البروز محراب مكسو بالرخام ويجاور المحراب منبر من الرخام أيضا زين بزخارف نباتية وهندسية نفذت بأسلوب التفريغ والقسم الثاني الغربي من المسجد يتكون من صحن مكشوف حوله أربعة إيوانات مغطاة بقباب صغيرة ويتصل الصحن بإيوان القبلة الأمامي عن طريق ثلاثة أبواب أهمها الأوسط ويعلوه عقد مقرنص وعليه لوح رخامي كتابي يتضمن إسم المنشأة وتاريخ الإنشاء وإسم الناظر المشرف على المسجد وتقع دكة المبلغ فوق هذا الباب في مواجهة المحراب وهى محمولة على عمودين من الرخام ولها درابزين من الخشب الخرط وفي الواجهات الثلاثة للصحن المكشوف الجنوبية والشمالية والغربية المبنية كلها من الحجر أبواب تؤدى إلى داخل الصحن وواجهات المسجد تسودها البساطة حيث تقتصر زخارفها على النوافذ المعقودة بعقود نصف دائرية والشرافات العلوية التي تتوج الجدران الخارجية له ولهذا المسجد منارة رشيقة على الطراز العثماني تقع إلي يمين واجهته الرئيسية وهى ذات قطاع أسطواني رشيق وذات تضليع ولها دورة واحدة تبرز عن البدن بواسطة مقرنصات حجرية رائعة الشكل متعددة الحطات وتنتهى برأس مخروطية تشبه رأس القلم الرصاص علي الطراز العثماني الذى نراه في رأس مئذنة مسجد سليمان باشا الخادم ومسجد سليمان أغا السلحدار ومئذنتي مسجد محمد علي باشا بالقلعة .     

thumbnail

وقد أشارعلي باشا مبارك في الخطط الجديدة لمصر أن مسجد الملكة صفية مرتفع عن الأرض بنحو أربعة أمتار وله بابان يصعد لهما بسلالم متسعة مستديرة عددها 18 درجة وله صحن واسع حوله إيوان مسقوف بقباب قائمة على أعمدة من الحجر والرخام وبداخل مقصورة الصلاة محراب ومنبر وميضاته منفصلة عنه كما ذكر علي مبارك أن المسجد من إنشاء عثمان أغا ثم آل بطريق شرعي إلى سيدته الملكة صفية وبكل من الواجهتين الجنوبية والغربية سلم صاعد كبير نصف دائري يؤدي إلى المدخل أمام الواجهة البحرية مرجحًا أن هذين السلمين مستجدان وأنهما لم يتم إنشاؤهما في الأصل عند بناء المسجد ويرجح المؤرخون أن السبب في جعل أرضية المسجد تعلو عن سطح الأرض بهذا العدد من الدرجات هو الرغبة في البعد عن تأثير المياه الجوفية علي أرضية المسجد وقد وقامت لجنة حفظ الآثار العربية في عصر الملك فؤاد الأول بالكشف عن واجهات المسجد التي كانت قد إختفت خلف العديد من المنازل التي بنيت حوله فقامت اللجنة بنزع ملكية هذه المنازل وهدمها وإزالتها فظهرت الواجهات على أصلها ورونقها القديم وجرى ترميمها آنذاك .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى