مقالات

تونس مواعيد مع الفرح وهل يستقيم الإرهاب في بلد الفرح – وهل تستوي الأنوار والظلُمُ؟

كتبت وداد بوديش من تونس

تونس وطن الحياة وبلد المباهج والأفراح والملذات هي ملاذ للآملين و مزار للعشاق والحالمين هي مكمن الأشواق وأوبة المشتاق وجهة السائلين ومسلك المريدين… هي وطن آمن لأحباء الحياة وحماة الكرامة والدين رافعي لواء الوطنية ومشعل الإنسان والإنسانية، شعب مسالم سمْح طيّب الأعراق بشوش لجوج في منح الكرم والأعطيات وهم أهل الطيبة والمكرُمات فتونس من الأنس، قبلة للسائحين والمنشدين جنات نعيم لكل الزائرين وانت في ربوعها لن يستهويك النوم ولن تثنيك مشاغل الدنيا عن الولوج في ثناياها الجميلة وتضاريسها الخميلة ولكن عليك اولا ان تطّلع على تاريخها لتعرف انها من نشء البايات ام البدايات والنهايات سليلة الملوك وابنة السلاطين و السلطانات اذا لمست طرف ثوبها سيتحول الذوق الأميري الى مارد عظيم يرد عن نفسه جهل الظلاميين وتمرد المتطفلين سيكون سيف يدك الى نحرك سباقا وتنقلب في حلقك مرارا وعلقما حميما وغساقا، الجنة ستؤول منفى لخفافيش الظلام، وسجنا لسدنة الموت وقبرا لدعاة القتل والعنف والمتشددين ..

إن كل من زارها سقط في غرامها وهام بعشقها فنسج لها الأشعار والمواويل ووصفها بجنة العشاق والهائمين فلن يستقيم عيش ولا تهنأ حياة إلا في أحضانها وعلى أرضها. وأنت في تونس لن يخطر ببالك أن تغادرها، إن كنت زائرا فلن تملّ المُقام فيها وإن جئت تطلب علْما فأنت في بلاد العلوم والعلماء وبين رجالات الفكر والتفكير ورموز التجديد والحداثة والتنوير، سجّل لها التاريخ أسماء لعمالقة الإصلاحات والتدبير وهي لن تكون أرضا لأصحاب الفكر الظلامي ومتون الشقاق والتكفير.

وأمّا إن شُغفت بأدب فأنت بين أقطاب اللّغة والأدب والشّعر والمدارس الوجودية والرّومنطيقية والرومانسية وأما إذا كنت من مريدي الأصالة والعراقة والانتماء فإنك ستجد في أعماقها عمقا تاريخيا وبعدا حضاريا عريقا. وإذا رُمت كنوزها سياحة فبحرٌ وشطآن وشمس وأنسام وهواء أو خيمة ورمل وجولة في تخوم الصحراء، وإن هام فؤادك بأسرارها هدوءا وسكينة وراحة واستجماما فإليك الغابات والجبال والطبيعة الغنّاء والحدائق والنزل والمطاعم ومراكز الاستشفاء والعلاج الطبيعي ورغد العيش والهناء…

وما أسعدنا وما أكرم حظنا إذ ابتلينا بعشق الخضراء، بلد كرّس نفسه لمريديه وعلّمهم الحب والحياة والعيش الجماعي وقبول الاختلاف دون خلاف والايثار وليس الثأر. بلد علَّم كل أجواره ونظرائه أن الإنسان هو أصل النهضة والتجديد والتطوّر راهن على تعليم أبنائه ومحو الجهل ودرء الجهالة والشعوذة وكل طقوس التخلف والرجعية.

ابدا لن يجد الإرهابُ إليه مسلكا ولا منفذا ولا موطنا ولا حاضنة ولا مسهّلا ولاسبيلا ولا وكيلا ولا عميلا ولا كفيلا.. وكيف يُعشّش الجهلُ في عقول صنّاع الحياة، أو التخلفُ في صدور روّاد العلم ومقدّسي الفكر والتحرر والانطلاق. كيف تتحول الجبالُ من محميّات ومنتجعات إلى بؤر للخفافيش ومراكز للقتال …هيهات أن يفتكوا أراضينا وجبالنا ويرعبوا سماءنا أو يفخخوا أفراحنا ويجففوا انهارنا.. الخفافيش لا تعيش الا في الظلام ونحن نحب الحياة والنور والسلام..

ولا أبلغَ من قولي هذا إلا قولُ مواطن جميل نقي أبي عصي رغم جهله بالعلوم والبلاغة قضت ابنته وهي في العاشرة في أحداث بن قردان فقال مواسيا الشعب المتعاطف بقولته الشهيرة ” بلادي قبل ولادي ووطني قبل بطني”

أين من هؤلاء شعب يقدس وطنه قبل بطنه وولَده. فنحن المؤمنون بفلسفة الحياة، مبدأ اخذناه عن أمير الشعر ابي القاسم الشابي الذي أنشد لتونس أغاني الحياة وصلَّينا معه في محراب عينيها صلوات في هيكل الحب.

66713042_395743827733038_712086370583052288_n

خلقت طليقا كطيف النسيم

وحرّا كنور الضحى في سماه

تغرد كالطير أين اندفعت

وتشدو بما شاء وحي الالاه

وتمرح بين ورود الصباح

وتنعم بالنور أنّى تراه

وتمشي كما شئت بين المروج

وتقطف ورد الربُّى في رباه

كذا صاغك الله يا بن الوجود

وألقتك في الكون هذي الحياه

إلى النور فالنور عذب جميل إلى النور فالنور ظل الإله

.. فتونس هي الأم الرؤوم التي تجعل أول درس لبنيها درس العزة والكرامة والشموخ فتشعر أنك إنسان عظيم كريم رفيع وديع آمن شامخ حرٌّ وسالم لأنك ذاتٌ سامية من الذات الإلهية يسكن الحب في سواكنك و ينبع النورُ من شموس بواطنك فالموت والخراب ليسا سبيلك إلى نيل المطامح لأنك رتّبت أحلامك بذوق الأمير الرفيع البديع فقد تركت لك عنوانا أمام باب الحياة ولم تترك للموت مجالا لأن يغدر بك، انت سلكت بفضلها طريق النور لأن النور هو سر الإله، رسمتَ خطاك على كل الطرقات الذلولة وفاح عطر قهوتك من كل النوافذ و المقاهي الخجولة، الحياة هنا بسيطة وديعة مبهجة وآمنة تنبعث أرواحَ و روائحَ وظلال وأصوات وفاكهة وسلال صور أنيقة من الأحياء والأزقة والبلاد العربي وعلى أصوات الباعة ومن ضجيج الأسواق. إنها الوطن والماء والانتماء وأزهار الياسمين والعطرشاء والجبل والسهل والبيداء هي الزمان والمكان وهي الحديقة الغناء وان كان في صوتي مبالغة فإن رأي الزائرين والوافدين فاق رأيي فيها.

ومن عجب الزمان أن سالكي نهج العنف والخراب يرتدُّون على أعقابهم خائبين بعد كل محاولة بثّ الذّعر في العباد وطيّ ورقات الفرح عن البلاد لأنهم لا يجدون في التونسي إلا عزما على التصدي لمحاولاتهم اليائسة ورفع راية البلاد واعتناق دين الحياة… بعد ساعات من الترويع الذي تنتهجه عصابات المرتزقة والانتهازيين عاد التونسي إلى الشوارع والمقاهي والحفلات وأُعلنت نتائج الامتحانات وجني ثمار المناظرات فأُطلقت الزغردات وتصاعدت روائح البخور مع الرقصات والايقاعات… وهكذا الفرح هو القوت اليومي للتونسي.

ما أجمل العيش في تونس الحلمَ والفرح، في تونس لا ايديولوجيا تُفرَض على التونسي إلا عقيدة حب الوطن ولا رمزَ يعلو على العلَم ولا دين يُنتهج إلا دين اللّه الذي يضع الإنسان وأمنَه وحياته وكرامته فوق كل اعتبار. التونسي بطبعه معتدل يكره الغلوّ في الدين والمغالاة في متاع الدنيا ينبذ التطرف في كل الأمور يعمل لآخرته كأنه يموت غدا ويسعى لدنياه كأنه يعيش ابدا … هو وسطي متحرّر ومحافظ مبدع ومحتشم لا يحب الإفراط ولا التفريط ولا يتبع القنوط ولا الإحباط عَمول متوازن خلوق متفاعل منظم لا متهاون ولا متخاذل.

فهل للتنظيمات الإرهابية في بلد الفرح وفي موطن فرحات حشاد وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد إربة أو سكن؟ إنها تونس التي كانت سباقة على العالمين في انتهاج العلوم واطلاق الحريات وإعلان المساواة بين الرجل والمرأة و قضايا العرب والشرق الأوسط واللاجئين والمنكوبين.. يُحسب لها أنها أول بلد في العالم يمنع الرقّ والعبودية واول البلدان العربية التي ساندت قضية فلسطين وآوت مناضليه وأحسنت وِفادتهم. اسالوا التاريخ وسيحدثكم عن أرض أكرمت أبا جهاد حين أقصاه آخرون وأسندت ياسر عرفات حين خذله الباقون… دفاعنا عن الحريات، والحق في الحياة أصيل و جليل وهو موقف ومبدأ ليس خاضعا للتبديل

منها خرج علماء ساهموا في تطوير العلم البشري والثقافة العالمية وغمر اشعاعها مدنا وأقطارا ولايات وامصارا فبعد جامع الزيتونة بالقيروان تأسست جامعة القرويين بفاس وجامع الأزهر بالقاهرة وجامعة دار الحكمة بالقيروان وجامعة باليرمو التي بناها حكام صقلية من تونس وهي أول البلدان العربية التي شهدت حركة إصلاحية شاملة في القرن 19 وأشهر علمائها خير الدين باشا الذي وضع أسسا ثابتة لتجديد علمي واجتماعي شامل أثمرت بإنشاء مدرسة الصادقية لتدريس العلوم واللغات الأجنبية وتخرج منها رجالات فكر وجهابذة علم وأدب

فيها نشأ بن منظور صاحب لسان العرب وابن شرف صاحب زهر الأدب وابن رشيق صاحب كتاب العمدة الكتاب الأدبي الشهير وحازم القرطاجني أول من جعل من فن الجمال الأدبي والمناهج الأدبية علما خاصا قائما بذاته وابن حمديس الذي علم الايطاليين القافية والزجل والشعر الغنائي والوصف وابن الجزار أشهر الأطباء العالميين ومحمد بن سحنون وابي الحسن القاسي وعالم الفلك على ابن أبي الرجال ومن المعاصرين على الدوعاجي والبشر خريف وجماعة تحت السور ولا يفوتنا ذكر اسماء علقت بالذاكرة من نساء تونس الشامخات فمن عليسة مؤسسة قرطاج إلى فاطمة الفهرية ام البنين الي خديجة بنت الإمام سحنون حاملة لواء المذهب المالكي بالمغرب الأقصى إلى الجازية الهلالية والسيدة المنوية وتوحيد بالشيخ وعزيزة عثمانة وأروى القيروانية التي اشترطت على زوجها ابي جعفر المنصور الا يتزوج عليها فكان ما يعرف بالصداق القيروانية إلى شريفة المسعدي اول امرأة نقابية وبشيرة بن مراد رائدة الحركة النسائية في تونس ونذكّر من تاهت بهم الذاكرة أن المرأة التونسية هي أول امرأة عربية تقود الطائرة وأول طبيبة عربية كانت تونسية وأول سائق قطار عربية ايضا تونسية وكذلك أول قائد باخرة عربية هي تونسية وأول وزيرة عربية هي بالتاكيد تونسية فمنذ القديم كانت المرأة حاضرة حضورا فاعلا في بناء الدولة والمجتمع

وتونس لن تمر ببالك مرور الكرام فقد امتدحها الجواهري وغناها الأبنودي واحمد فؤاد نجم وكذلك شاعر الحب و فنان الشعب بيرم التونسي الذي اقترن اسمه بكبار الفنانين وقالوا فيه “ان كان لمصر كلثومها فلأم كلثوم بيرمها” وقال فيه الشيخ إمام ” بيرم التونسي هو الذي علم الشعراء كيف يحبون الناس” وغناه قائلا

يا عيون الشعر يا تونسي

ياعيون الشعر الصافي

يابحور هايجين مايجين

ماشيين في طريقك دايما

وحنفضل كده ماشيين

ع الدرب اللي انت سلكته

بالليل والناس نايمين

وان كنا نقول ونزود

ونجود في المضامين

بيكون الفضل لبيرم

أسس واحنا الطالعين

66814762_327948994758192_2345569652815429632_n

وانت تعرّج على تاريخ تونس حتما ستمر بأعظم علامة وأكبر رمز في علم الاجتماع من علمه ينهل علماء الاجتماع المعاصرين هو عبد الرحمان بن خلدون الذي أشار ان تونس أطلق عليها هذا الاسم لما عرف به أهلها من طيب معاشرة وكرم ضيافة وحسن وفادة.

كل من زارها غادرها باكيا، أو عاد اليها مشتاقا للوله شاكيا .. 

هي التي قال فيها درويش في أخر أيامه وهو يودع ترابها الأبي واديمها العصي

كيف نشفى من حب تونس

الذي يجري فينا مجرى النفس

لقد رأينا في تونس من الألفة

والحنان والسند السمح

ما لم نر في اي مكان آخر

لذلك نخرج منها

كما لم نخرج من أي مكان اخر

نقفز من حضنها الى موطئ القدم الأول

في ساحة الوطن الخلفية

بعدما تجلت لنا فيها

في البشر والشجر والحجر

صور أرواحنا المحلقة كعاملات النحل

على أزهار السياج البعيد

في هذا الوداع أحبكِ يا تونس

أكثر مما كنا نعرف

نرسب في صمت الوداع الحزين

شفافية تجرح ونُصفي كثافة مركزة

الى حد العتمة التي تحل بالعشاق

ما أجمل الأسرار الكامنة وراء الباب الموارب

وراء بابك

فهل نقول لك شكرا ؟!

لم أسمع عاشقين يقولان شكرا

ولكن شكرا لك لأنك انت من أنت

هل نسينا شيئا وراءنا؟!

نعم نسينا… تلفت القلب

وتركنا فيك خير ما فينا ..

محمود درويش: الأسطورة

الأسطورة درويش كتب عن البلد الأسطورة

وتبقى تونس سرا غامضا وحسنا آخذا وبهاء رابضا وقلبا نابضا

ادخلوها بسلام آمنين فهي حصن سرمدي يستعصي على الغزاة ولا يدخله الا عشاق الحياة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى