مقالات

أوتينا “أوذنة” تتحدى التراب والنسيان

 عبد الوهاب البراري _ تونس

على بعد ستة فراسخ (30 كيلومتر) من العاصمة التونسيّة اختارت اوتينا (اوذنة) مستقرا لها على ربوة تتوسط سهولا خضراء متراميّة حولها، عروس اختلف رواة التاريخ حول هويتها وجذورها، قالوا انّها بربريّة بونيقية، ثم قالوا ان دمها الجاري في شريانها رومانيّة من زمن الامبراطور اوكتفيان او اوغسطين، اختلفوا في كل ذلك ولكنهم ما اختلفوا حول هيبتها وجمالها الذي أورثته لعرائس تونس من المواقع والحضارات المتعاقبة على اتربة حنبعل وعليسه، لم يوشح بها الشابي قوافيه، ولم يتغنى بها علي الرياحي متغزلا بحبيبته الزنجية.

تحدّت التاريخ فلم تُحْفَظْ في أرشيف الذكريات او في متاحف التناسي، صارعت النسيان ونحتت لها مكان في ذاكرة الأرض والوطن حتى صارت كعبة الزوّار من المولعين بعشق هذا البلد والباحثين عن الذاكرة التي اشترك فيها الايطاليون والاسبان وساكنوا صقليّة.

89034943_196473971686396_6249728597423030272_n

تحدّت كل ذلك، رفضت أن تسكن تحت التراب فانتفضت ونفضته عنها، صرخت ها انا ذا، وهاهنا مستقري ومقامي كأن بركات سيدي ابي الحسن الشاذلي المنتصب قبالتها على ربوة الجلاز من الشرق قد رافقتها وبعثت فيها أنفاس الحياة من جديد.

ظل جبل زغوان منتصبا غربا يحميها من فيروس النسيان أو التناسي.

انتصبت أعمدة الكابتول أكبر المعابد الرومانيّة في أفريكا كمنارات يهتدي بها الزوّار الى محراب التاريخ، تاريخ الوطن حتى أصبحت قاعته الأرضية ذات الأقبيّة الثابتة في تناسق يزيد المكان جمالا، يؤمها الباحثون في دفاتر التاريخ والمولعون بالحفريّات أينما اشتموا عطر الحضارات المتعاقبة على هذه الأرض، أصبحوا يضربون لأنفسهم مواعيد في هذه القاعة لينفضوا مزيدا من الغبار على ذاكرة أوذنة وشقيقاتها من المواقع، التي تخلد حضارات تعاقبت على هذا الوطن فما استطاع النسيان أن يطمسها.

لم تقتصر أوذنة على كونها قبلة لِهؤلاء فحسب بل أصبحت وجهة الباحثين والمستكشفين، فتتالت الحفريات لقراءة صفحات تاريخها المنقوش على أعمدتها الضخمة من النمط الكورتني ولوحات الفسيفساء التي تجملّت بها بعض قاعاتها ومواقعها كوشم على جبين الكاهنة لم تأثر فيه السنوات وكأنه أراد ان ينقش هويتها وجذورها في دفاتر الذاكرة الانسانيّة…

وجدران الكابتول (أحد أكبر المعابد الرومانيّة المكرس لآلهته الثلاث جوبيتير وجونو ومنيرفا) بلونها البني يحاكي رسم الحناء على كف الجازيّة الهلاليّة حتى أصبح قبلة الفنانين ومرسى الرسّامين يعرضون تحت سقف قاعته الكبيرة ابداعاتهم الفنيّة وعسارة خيالهم من لوحات، فان حالفك حظك من الأيّام أن تكون أحد الزائرين لوجدت نفسك تائها بين جمال المكان وسحر اللوحات المعروضة، أتصغي إلى كلمات الإبداع النابعة من إحساس الرسّامين أم تعير السّمع إلى مرويات تلك الاعمدة الحجرية التي تنتهي بأقواس تلاحمت حجارتها المنقوشة كتيجان ملكة إغريقية أو رومانية او فرعونية، تتوه بين هذا وذاك فلا تعتريك الرّغبة في قطع حلمك اللذيذ هذا، ولا تريد أن تعود من رحلتك الساحرة بين جمال الحاضر المنتصب أمامك، المنقوش على لوحات عزالدين البراري او زبير التركي وبين حكايات أعمدة وأقواس الكابتول وسقفه.

89491776_1440694892803743_4097989173703606272_n

في اوتينا استفاق التاريخ من سهاد لم يدم طويلا ليروي لنا جزءا من تراث هذا الوطن، وطن ما تنكر يوما لهويته وجذوره، أو لنقل لحضارات ما أنكر إحداها، بل أعلنها بافتخار أنّه سليل الأمازيغ وهيبتهم والرّومان وعظمتهم والقرطاجيين ومجدهم والمسلمين وتآخيهم.

هنا أوذنة وهناك قرطاج وزاما وليس بعيدا القيروان والجم وسفيطلة، وعلى شاطئ المتوسط تمددت المهديّة وجوهرة الساحل، وأرست جزيرة جربة الحالمة زورقها لتغازل بجمالها واحات الجريد…

هذه أوتينا أو لنقل بعض الشيء منها وبعض من هذا الوطن، وطن التراث والتاريخ والحضارات والحب….

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى