تقرير الباحثة / أ. إنعام العطيوي
مركز حماية وصون التراث الثقافي
وزارة الثقافة العراقية
يضم العراق مُشتركات ثقافية لتراثهِ الثقافي غير المادي مع الدول العربية والعالمية مما تُعد هذه الثقافات امتداداً لوجودهِ الثقافي وهويتهِ الوطنية، ورغم وجود ملفات ثقافية تراثية مُشتركة مع العالم العربي والدولي والاسلامي الا انهُ يمتلك ملفاً وطنياً لبعض الثقافات التي انفرد بها دون سائر المُجتمعات العربية والعالمية والاسلامية كان مِنها المُمارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات في “المولد النبوي الشريف” للرسول محمد صل الله عليه والهِ وصحبهِ وسلم، والتي توافق التوقيت الهجري في الثاني عشر من ربيع الاول (12- ربيع الاول) لكل عام، اذ اندرجت هذهِ الاحتفالية ضمن قائمة الحصر الوطنية للتراث الثقافي غير المادي لجمهورية العراق عام 2014 والتي تم تحديثهِا خلال الاعوام (2017م- 2019م- 2021م- 2024م) .
وأن لكُل عُنصرٍ ثقافياً تراثياً غير مادي يحظى بتدابير صون وحماية مُستدامة للعنصر الثقافي التراثي وعلى ضوء اتفاقية عام 2003 الصادرة من منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة للتراث الثقافي غير المادي ووفق نُصوصِها الاساسية تسعى الدولة العراقية لحماية وصون هذهِ الممارسة التراثية الثقافية العراقية بامتياز للحفاظ عليها وصونِها وحمايتِها وفق الاستراتيجية العامة لليونسكو الصادرة عام 2019 اذ اقرت الحكومة العراقية ُمُناسبة المولد النبوي الشريف هو مناسبة حكومية تُعلن فيها الامانة العامة لمجلس الوزراء عطلةً رسمية في كافة البلاد للوزارات والمؤسسات الحكومية احتفاءً بهذهِ المناسبة.
اذ تُــــقام الاحتفالات في عموم العراق وتُعلن مظاهر الفرح والزينة في الشوارع العامة والطرق الفرعية والازقة الضيقة والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، فضلاً عن الاحتفالات الدينية والشعبية التي تَشتمل مُمارسات شعبية تُشارك فيها المؤسسات الحكومية والمُنظمات الغير حكومية اضافة لمُمارسات الاهالي البسطاء من الشعب الذين يوزعون الحلوى على نفقتهم الخاصة بتبرع منهم كلاً حسب مقدورهِ، تشمل تزيين الطرق والازقة بالرايات التي تحمل اسم (محمد) والصلاة عليه واشاعة الفرحة بالإضاءات واعلام الزينة وتوزيع الحلويات واقامة الاحتفالات المركزية في المراقد الدينية.
وعلى هذا الاساس يعمل مركز حماية وصون التراث الثقافي العراقي التابع لوزارة الثقافة في رشيد عالي الكيلاني بعمليات الحماية والصون والتوثيق للممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات المرتبطة بهذه المناسبة، وتجديد عمليات التوثيق للممارسات لإدراجها ضمن القائمة الوطنية للتراث الثقافي غير المادي العراقي ومتابعة مواكبة حماية العنصر من قبل الممارسين والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية.
اذ تُعد الطقوس الاجتماعية المُمارسة في هذهِ الاحتفالية ذات طابعٍ مُختلفٍ عن باقي المُمارسات حتى الاطعمة التراثية في هذهِ المُناسبة تخَتلف عن باقي المُناسبات فهي تَمتاز بطهي الاطعمة التراثية مثل حلوى (الزردة) ذات اللون الاصفر المُزينة بالمُكسرات والقرفة والمذاق الحلو واشعال الشموع اشارة للنور والاضاءة التي عمت العالم الاسلامي بمولد النبي محمد صل الله عليه واله وصحبه وسلم .
اما الاحتفالات فتتمركز في المراقد الدينية وأهمِها في جامع الامام الاعظم ابي حنيفة النعمان في منطقة الاعظمية ببغداد والتي يرتادها كافة المسلمون ومن كافة المذاهب وليس هي حكراً على تنوعٍ ثقافيٍ دون اخر، اضافة الى مشاركة باقي التعددات والتنوعات الاثنية في هذهِ المُناسبة طلباً للتبرُك وقضاء الحاجات ومُشاركة الطائفة المسلمة بولادة خاتم الانبياء محمد صل الله عليه واله وسلم.
ومن بين الثقافات الشفاهية المُتوارثة عبر الاجيال والمُتناقلة شفاهياً والتي صارت تتناقل الان بالتمازُج مع حداثة الاجهزة التقنية هي المدائح النبوية بالطرق على الدفوف والتغني بحب الرسول محمد واشاعة الصلاة على الرسول واقامة الاذكار المُحمدية يُقدِمها عدد من المُمارسين لهذهِ الطقوس الاجتماعية المُتوارثة شفاهياً من الاباء والتي تتميز بها عوائل دون اخرى سجلت موروثها الثقافي اباً عن جداً للممُارسة مثل المَنقبات النبوية الشريفة التي تتغنى بحب الرسول وتطرق دفوف المولد النبوي الشريف وقراءة المقامات العراقية المُنفردة بهذا اليوم.
ولا تتوقف المُمارسات الاجتماعية عند هذا الجانب فمنهم من يطلق العنان لتعزيز الوحدة الوطنية لتكون فرصة لتعزيز أواصر المحبة والاخاء والتآزر والتكاتف بين المذاهب الاسلامية والدينية المُتعددة والمُتنوعة في العراق فيكون هذا التاريخ منبراً فاتحاً لمنصة العلم والابحاث والدراسات والمؤتمرات والندوات والاجتماعات على مستوى الجامعات والكليات ومنابر العلم والمراكز الدينية ومراكز الابحاث والدراسات فضلاً عن فتح باب التبرعات للزكاة من اموال المُسلمين المُتمكنين لإعالة اخوانِهم المُحتاجين وسد احتياجاتِهم المادية والمعنوية والتكافل الاجتماعي بين ابناء الشعب العراقي .
ولا تُعد هذهِ المُمارسة الاجتماعية مُختصرة كظاهرة دينية فهي تتعداها الى مهرجان اجتماعي يفسح المجال للجماهير المُجتمعة غالباً في الاعظمية قرب جامع ابي حنيفة النعمان ليكون تظاهرة اجتماعية يُعبر فيها المُجتمعون عن احتياجاتِهم وامنياتهم ومعاناتهم وهناك تكون الايادي السخية الباحثة عن الرحمة لتحقيق الاماني للمُحتاجين والمُطالبين بامتيازات قد تكون بسيطة لكنها عليهم كبيرة، فتكون احدى ليالي السخاء للمريدين بتحقيق امنياتهم مكللة بأهازيج الصلاة على رسول الله واله وصحبه وسلم.
اما من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية والامنية والاقتصادية والاعلامية والتربوية في العراق فتتجلى كل اقلام الكتاب والصحفيين والعلماء والدراسين بتسخير اقلامهم وابحاثهم وكتاباتهم لنقل صور الاخاء والتلاحم الجماهيري للشعب العراقي في هذهِ المُناسبة لتكون منابر العلم من الدراسات والابحاث تتجلى بكتابة البحوث العلمية في هذهِ المُمارسة وتُسخر طاقات الصحافة والاعلام والقنوات التلفزيونية لنقل تفاصيل الاحتفالات ونقل الرسائل الاعلامية للشعب الحاضر في الاحتفالات والتركيز للقنوات الحكومية والغير حكومية على بث الافلام الوثائقية للرسالة المُحمدية ومولدهِ الشريف يتقدمُها في ذلك فلم (الرسال) للمخرج مصطفى العقاد بنسختيهِ العربية والاجنبية، ناهيك عن تكريس الجهد الامني والعسكري للحفاظ على امن البلاد من قبل القوات الامنية البطلة التي توفر حماية المراقد والطرق والشوارع والازقة وفتح باب الاتصال المباشر بالمسؤولين للاستجابة السريعة لمُناشدات الناس المُتجمهرة لطلب حاجاتِها والاستماع بشكل مُباشر لطلبات واحتياجات الناس فُيكرس عدد كبير من السؤولين وقتهم في هذهِ المناسبة للاستماع لطلبات الناس واحتياجاتهِم والسعي لتلبيتها وفق القانون والضوابط الادارية، ناهيك عن الجهد الاعلامي لهيئة الاعلام والاتصالات التي تقوم بأرسال رسائل على اجهزة الهاتف النقال للتهنئة والتبريك بحلول المولد النبوي الشريف ويتم ذلك بالتعاون مع ديوان الوقف السُني، فضلاً عن الاحتفالات والمهرجانات والندوات التي تقام على اروقة دوائر وزارة الثقافة والسياحة والاثار لإحياء مُناسبة المولد النبوي الشريف.
ولا تقتصر معالم الفرح للمولد النبوي الشريف على الاحتفال فهي تأخذ جانباً تربوياً في المؤسسات التربوية لرياض الاطفال والابتدائية والمتوسطة والاعدادية لإدخالها كبرامج تعليمية للطلبة بدراسة سيرة النبي محمد صل الله عليه واله وصحبه وسلم.
وبذلك تكون اجراءات التوثيق والصون والحماية لهذه الممارسة الاجتماعية في العراق بملفها الوطني قد طبقت كل فقرات الاتفاقية لعام 2003 وضمن استراتيجية عام 2019 في حماية الممارسات الاجتماعية وطقوس الاحتفالات لعناصر الملف الوطني للتراث الثقافي غير المادي في العراق والعمل جاري لتحديث حماية هذا العنصر بما يتماشى ومكانة العراق في العالم العربي والاسلامي والعالمي بجهود باحثين مختصين في هذا المجال سعياً منهم لادراج هذه المناسبة ضمن لائحة اليونسكو للتراث العالمية.
واخيراً وليس اخراً يعد يوم الاحتفال بمولد النبوي الشريف باب الخير والعطاء والتآزر والتكاتف الاجتماعي بين ابناء الشعب العراقي ونموذجاً حياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتجربة رائدة لحماية الامن القومي في العراق وحماية المكونات الثقافية في بلد تعدد فيه التنوع الثقافي .