جدة: أسماء الشهري
في كل مساء، حين تميل الشمس نحو البحر الأحمر، تصحو جدة على مشهد لا يشبه سواه.
من قلب الكورنيش الغربي، يتصاعد عمود مائي شاهق، يعلو حتى يلامس الغيوم، وينثر رذاذه في الهواء كأن المدينة تتنفّس من جديد. إنها نافورة الملك فهد، المعلم الذي تحوّل من مشروع هندسي إلى رمز للمدينة وذاكرة للبحر.
في أوائل الثمانينات، كانت جدة تبحث عن هوية بصرية تليق بميناءها الأقدم ووجهها العصري.
حينها قرر الملك فهد – رحمه الله – أن يقدّم للمدينة هدية مختلفة: نافورة تضخ ماء البحر نفسه، وترتفع لأعلى من أي نافورة في العالم.
بدأ العمل في المشروع عام 1980واستمر حتى افتتاحها عام 1985لتغدو منذ ذلك الحين علامة فارقة في أفق جدة. لكن خلف هذا الجمال، تختبئ قصة هندسية معقدة لم تُروَ كثيرًا.
أن ترتفع المياه إلى أكثر من 312 مترًا فوق سطح البحر ليس إنجازًا بسيطًا.
تخرج المياه بسرعة تقترب من 375 كيلومترًا في الساعة عبر فوهة فولاذية ضخمة، تدفعها مضخات عملاقة بقوة تُعادل محركات طائرة نفاثة.
ورغم هذا الاندفاع الهائل، فإن النافورة تخضع لحسابات دقيقة:
زوايا الرياح، ضغط الهواء، كثافة الرطوبة، وحتى اتجاه التيار البحري كلها تدخل ضمن معادلة التشغيل اليومية. وعندما تشتد الرياح الجنوبية، تتوقف النافورة مؤقتًا حتى لا يغمر الرذاذ المالح الواجهة البحرية.
المياه التي تتطاير كل مساء ليست عذبة كما يظن كثيرون، بل هي مياه البحر الأحمر المالحة.
هذا القرار كان بيئيًا واقتصاديًا في الوقت نفسه، لكنه شكّل تحديًا هندسيًا هائلًا، لأن الملوحة العالية تُسبب تآكل المعدن بسرعة كبيرة.
يقول أحد مهندسي الصيانة – مفضّلًا عدم ذكر اسمه – إنهم يستخدمون “أنظمة حماية كهربائية تُعرف بالأنودات” لمنع الصدأ، إضافة إلى فولاذ مقاوم للتآكل يُستبدل دوريًا كل بضع سنوات.
العمل تحت النافورة ليس مهمة عادية؛ فكل قطعة معدنية، كل أنبوب، وكل صمام يخضع لاختبار قاسٍ أمام أمواج البحر والهواء المشبع بالملح.
مع حلول المساء، تُضاء النافورة بأكثر من 500 كشاف ضوئي.
تنعكس الإضاءة على عمود الماء كأنها شعلة فضية، ويبدو الرذاذ كستار من الماس.
لكن ما لا يراه الزائر هو كمية الطاقة التي تحتاجها هذه الإضاءة والمضخات الضخمة.
ورغم عدم وجود بيانات رسمية معلنة، إلا أن بعض التقديرات تشير إلى أن تشغيل النافورة لساعات طويلة يوميًا يُعادل استهلاك حيّ سكني صغير من الكهرباء.
في المقابل، تُعيد النافورة هذا الاستهلاك إلى المدينة بصورة غير مباشرة؛ فهي تُنعش المقاهي المحيطة، وتزيد من حركة الزوار، وتمنح الكورنيش حياة ليلية فريدة، لتصبح رمزًا اقتصادياً وسياحياً غير معلن.
تأثير النافورة لا يتوقف عند حدود الإعجاب، بل يمتد إلى البيئة والمحيط.
الرذاذ المالح الذي يتطاير لمسافات طويلة يترك أثرًا على الزجاج والمباني والسيارات، ويؤثر على النباتات القريبة من الشاطئ.
ومع ذلك، يرى سكان جدة أن هذه التفاصيل جزء من “طبيعة المكان”، وأن الجمال يستحق هذا الثمن البسيط.
تغيّر الكورنيش، توسعت جدة، أُنشئت مشاريع جديدة، لكن النافورة ظلت كما هي:
مزيج من البساطة والعظمة، ونافذة مفتوحة بين الأرض والسماء.
حتى اليوم، لا تزال تُعتبر أعلى نافورة في العالم، تتجاوز بارتفاعها تماثيل ومعالم شهيرة.
ويكفي أن تراها من الطائرة وأنت تقترب من الساحل لتدرك أنك وصلت إلى جدة… المدينة التي صعدت بمائها نحو السماء.
نافورة الملك فهد ليست مجرد مَعْلم مائي، بل قصيدة من الحديد والماء والضوء.
هي مرآة لروح جدة، التي تجمع بين الأصالة والجرأة، وبين البحر والإنسان.
وربما تبقى لسنوات قادمة تروي قصة مدينة لم تخشَ أن تحلم حتى بالماء.