أسوار وأبواب تونس: حكايات من التاريخ لا تزال قائمة

شارك

عبد الوهاب البراري… تونس

تميّزت أقطار الشمال الافريقي وبعض الدّول العربية وكذلك أغلب الدّول المكوّنة للقارّة العجوز بتداول حضارات مختلفة حاولت عبر تاريخها الطويل ضمان بقاءها بانتهاج سبيلين: أولهما تركيز أمن مدنها وترابها الدّاخلي ثمّ إرساء كلّ مقوّمات الدّفاع عن وجودها داخليّا وخارجيا عن طريق تكوين جيوش خاصّة بها وابرام اتفاقيات سلام مع جيرانها وتعاون مشترك معها على مستويات متعدّدة.
وفي سبيل ضمان أمنها الدّاخلي شيّدت أسوارا قويّة حول مدنها الرئيسية يشرف عليها جيشها ورجال أمنها ليلا نهارا.
وجاء ذكر تلك الأسوار في بعض الكتب السماوية منها القران الكريم في الآية 67 من سورة يوسف عليه السلام حيث قال سبحانه وتعالى في معرض وصيّة نبيّ الله يعقوب لأبنائه قبل سفرهم الى مصر طلبا للحنطة: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ…)
ونفهم من ذلك أنّ الدّاخل الى مدينة عزيز مصر لا يتسنّى له ذلك الاّ عبر باب من أبوابها المحروسة ليلا نهارا ضمانا لأمن متساكنيها.


وكان لمدينة القدس أيضا سور وأبواب سبعة لا تزال شاهدة على تاريخها وتاريخ أهلها الطيّبين، منها باب العامود وباب المغاربة، وكذلك الأمر لمدينة دمشق الفيحاء صاحبة الأبواب السبعة أيضا ومنها باب توما وباب الفراديس.
ولسائل أن يسأل عن سبب وجود تلك الأسوار والأبواب.
ما الغاية من ذلك؟ وما الحاجة اليها؟
الإجابة على ذلك تتمحور حول أمر واحد ألا وهو ضمان أمن وسلامة المدن وأهلها وفي ذلك أمن الدولة. تلك السلامة وذلك الأمن لم يكونا أمرا منشودا لدى وطن دون غيره ولكن أينما وجدت المدن شيّدت الأسوار الشاهقة المبنيّة بهندسة تؤمّن وظائفها الدّفاعيّة وحجارة جدرانها قويّة جدّا وبقاؤها على مدى قرون صامدة الى يومنا هذا لخير دليل على ما نقول.
لزيادة دور تلك الأسوار في تأمين المدن عمد سكّانها والمسؤولون على إدارة شؤونها الى استعمال أبواب تتماشى معها من حيث علوّها وقوّتها، فكانت تلك الأبواب مصنوعة من الخشب القويّ وذو سمك كبير.
تونس مثال شاهد للأسوار والابواب التي تحكي تاريخها
عندما نتجول في أزقة المدينة العتيقة تونس، لا يمكن أن نغفل عن الأبواب والأسوار التي لا تزال آثارها شاهدة على تاريخ طويل. كانت هذه المعالم حصونًا منيعة تحمي المدينة وأسواقها وأهلها، لكنها اليوم تفتح أبوابها للزائرين لتروي لهم حكايات الأزمان الغابرة. فمن أسوار تعود إلى القرن العاشر الميلادي إلى أبواب تحمل أسماءُها أجزاء من المدينة، تُعد هذه الأبواب والأسوار كتبًا مفتوحة تسرد تاريخ تونس المتنوع.
أسوار مدينة تونس حماية لها وشهادة على تعاقب الحضارات
تطورت أسوار تونس على مر العصور مع توسع المدينة، فبدأت بسور داخلي في القرن العاشر الميلادي، ثم أضيف سور خارجي في القرن الثالث عشر لزيادة الحماية. كانت هذه الأسوار مسرحًا لأحداث تاريخية كبرى، حيث شهدت فترات الحكم الأغلبي والحفصي، مرورًا بالدولة العثمانية، وصولًا إلى فترة الحماية الفرنسية.
عصر الازدهار: في العهد الحفصي، شهدت الأسوار توسعًا كبيرًا مع ازدهار المدينة، وساهمت في تحصينها من الهجمات الخارجية.
التفكيك والتوسع: مع دخول العصر الحديث، بدأت بعض أجزاء الأسوار والأبواب تُزال بهدف التوسع العمراني وتنظيم المدينة، خاصة في فترة الاستعمار وبعد الاستقلال.
الأبواب: نقاط وصل وحكايات مدفونة
كانت أبواب تونس أكثر من مجرد مداخل ومخارج؛ كانت نقاط اتصال بين المدينة العتيقة والمناطق المحيطة بها. ومن بين أكثر من 24 بابًا كانت تحيط بالمدينة، لم يتبق منها سوى القليل، لكن أسماءها لا تزال حاضرة في أذهان الناس.
باب البحر (باب فرنسا): يُعتبر من أقدم الأبواب، وكان يفصل المدينة العتيقة عن المدينة الأوروبية في فترة الحماية، ولا يزال يحتفظ برمزية هامة كمدخل للمدينة.

باب الجزيرة وباب قرطاجنة: من الأبواب القديمة التي اختفت، لكن أسماءها لا تزال مرتبطة بمواقعها السابقة، وتحكي عن الصلات التاريخية بين المدينة والجزر القريبة.
باب الخضراء وباب سعدون: من الأبواب التي تم تجديدها على مر العصور، وتحمل كل منها قصصًا عن التطورات التي شهدتها المدينة.

الأبواب المفقودة: هناك من الأبواب التي أزيلت مثل باب منارة وباب بنات، والتي لا تزال أسماؤها محفورة في ذاكرة المدينة.
تكمن أهمية أسوار وأبواب تونس في كونها لا تمثل مجرد هياكل معمارية، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية التونسية ورمز لصمود المدينة في وجه الغزاة على مر القرون، وتعكس تاريخ الأبواب والأسوار التحولات السياسية والعمرانية التي شهدتها تونس، من التوسع إلى التحديث، وكيفية تعامل الأجيال مع تراثها.
ولا تزال الأبواب الباقية، مثل باب البحر، تذكر التونسيين بماضيهم الغني وتاريخهم الحافل، وتربط الحاضر بالماضي.


في الختام، إن زيارة المدينة العتيقة ليست مجرد نزهة، بل هي رحلة عبر الزمن لاستكشاف تاريخ تونس من خلال أبوابها وأسوارها. فكل باب وكل زاوية تحكي قصة، وتدعونا لتقدير التراث الثقافي الغني لهذه المدينة العريقة.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.