آخر الأخبار

البلد القديم بجدة .. حين يتنفس التاريخ من جديد

شارك

جدة –أسماء الشهري

في قلب جدة القديمة، حيث تختلط رائحة الخشب العتيق بصوت البحر البعيد، تنهض الحجارة المرجانية من سباتها الطويل. هناك، في “البلد”، الحي المُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، تجري اليوم واحدة من أوسع عمليات التجديد العمراني في تاريخ المنطقة، تشمل أكثر من 650 مبنىً تاريخيًا.


لكن ما يحدث هنا لا يشبه أي ترميم عابر؛ بل هو بعثٌ لروح مدينة، وعودة لذاكرةٍ حاول الزمن طمس ملامحها.
كان حي البلد ذات يوم هو الوجه الأول الذي تراه السفن القادمة من البحر الأحمر، والبوابة التي عبر منها الحجاج والتجار إلى مكة المكرمة.
في أزقّته الضيقة وبيوته الموشاة بالأخشاب، تشكّل تاريخ جدة الاجتماعي والتجاري، ونُسجت حكاياتها مع البحر والميناء والناس.
ومع مرور الزمن، تراجع وهج الحيّ شيئًا فشيئًا، حتى بات كثير من مبانيه مهددًا بالانهيار، قبل أن تعيده الرؤية الوطنية إلى الواجهة من جديد.
منذ انطلاق مشروع “تطوير جدة التاريخية”تحوّل الحي إلى ورشة مفتوحة للحياة.
العمال والمهندسون يسيرون بين البيوت القديمة بحذرٍ يشبه الاحترام، كل خشبة تُعاد إلى مكانها، وكل جدار يُرمم بذات المواد التي وُلد منها قبل مئات السنين
لا تريد جدة التاريخية أن تصبح “مدينة للصور” بل حيًّا يعيش فيه الناس.
لذلك، جرى العمل على إعادة تأهيل المباني لتكون صالحة للسكن والعمل، وافتُتحت مقاهٍ ومراسم فنية، ومراكز للحرف التقليدية، لتستعيد الأزقة ضجيجها الإنساني بعد صمتٍ طويل.
سكان الحي القدامى بدأوا يعودون، بعضهم بعد غيابٍ دام عقودًا.
التحدي الأكبر الذي يواجه المشروع هو تحقيق المعادلة الصعبة: أن يتطور المكان دون أن يفقد أصالته.
لذا تم اعتماد أسلوب ترميم يحافظ على كل تفاصيل الواجهات الخشبية المعروفة بـ”الروشن”، ويعيد استخدام الحجر المرجاني المستخرج من ذات البيئة البحرية.
وفي المقابل، أُضيفت بنية تحتية حديثة تتماشى مع متطلبات العيش العصري — إنارة ذكية، وشبكات خدمية تحت الأرض، ونظام صرف جديد، دون المساس بجمال الواجهات.
تحوّل الحي اليوم إلى مركز ثقافي نابض.
تقام فيه الفعاليات الفنية، والعروض الموسيقية، والأسواق التراثية التي تعيد عرض الحرف القديمة بروح جديدة.
كما يجري تحويل عدد من المباني التاريخية إلى فنادق بوتيك ومطاعم تراثية راقية، تجمع بين الرفاهية والهوية.
لكن الأهم من كل ذلك أن “البلد” أصبح اليوم قصة نجاح سعودية في حفظ التراث بالأسلوب الحديث — نموذجًا يوازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على الذاكرة الوطنية.


في المساء، عندما تنعكس أضواء المصابيح على شرفات الخشب العتيق، تشعر أن الحي يتحدث.
يُخبرك بأن المدن التي تعرف جذورها لا تضيع، وأن جدة بكل ما فيها من حداثةٍ وملامح جديدة لا تزال تحمل في قلبها “البلد” كنبضٍ لا يموت.
الترميم هنا لم يكن مشروعًا هندسيًا، بل قصيدة في حب المكان…
قصيدة تُكتب بالحجر والخشب، وتُوقّع باسم جدة.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.