من مدينة أربيل التاريخية عاصمة اقليم كردستان بقعة طاهرة من العراق اتحفتنا الاستاذة الجامعية خونجة صباح احمد بمقال ثر عن بقعة خضراء ومدينة سياحة دائمة صيفا وشتاءا يؤمها السواح من كل بقاع العالم وتزخر بالسحر والطبيعة الخلابة الاخاذة
خاص مجلة السياحة العربية
رحلة في قلب شقلاوة درّة كردستان
خونچه صباح أَحمد
في عتبات جبل سفين، حيث تُقبّل الشمس الصخور، وتعانق الريح القمم، تقع بلدةٌ كأنها حلمٌ من الطبيعة، نُسجت من الضوء والندى، ووُلدت بين طيات الجبال كقصيدةٍ لا تنتهي… إنها شقلاوة، درّة كردستان، ونَفْس أربيل، تلك المدينة التي تتكئ على كتف الزمن، وتُفترش الوادي بساطًا من الخُضرة لا يذبل.
وتبعد عن أربيل على نحو خمسين كيلومترًا، واستطاعت أن تحتفظ بسحرها منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حين كان الملك فيصل ونوري سعيد ومحمد أمين زكي يختارونها ملاذًا صيفيًا، ومن كل حدب وصوب يتوافد الزوّار إليها طلبًا لكرم أهلها واستقبالهم الحار، من أربيل وبغداد وسائر محافظات العراق، ومن الدول المجاورة، بل وحتى البعيدة، في رحلاتٍ يبحثون فيها عن الجمال والطمأنينة، وعن طريقها الذي يربطها بأربيل، طريق هاملتون، يمر هذا الطريق بسحر الطبيعة، شقلاوة وديانا حتى حاج عمران، وهو بمثابة عرق الحياة الذي يربط الجبال بالسهول، والقلوب المتوق إلى اللقاء بالمدينة.
شقلاوة ليست مجرد مصيف… بل تجربة حسّية متكاملة، مدينة صغيرة في الحجم، كبيرة في الجمال، قادرة على أن تنسيك تعب السنة، وتمدك بطاقة جديدة، فإذا رغبت في عطلة نهاية أسبوع، رحلة عائلية، أو هروب فردي من صخب المدينة، اجعل شقلاوة وجهتك… واسمح لقلبك أن يستريح بين أحضان الجبال والوديان، حيث يلتقي الإنسان مع الطبيعة ومع ذاته في سيمفونية من السلام والجمال.
مدينةٌ إذا ناديتها، أجابتك بجمالها الفاتن، كأنها روح الطبيعة وقد تجسّدت في حضن الجبال، وإذا نظرت إليها، أهدتك أشجار البلوط والزعرور والعفص، كأنها غابةٌ من الذكريات، تحرسها الريح وتحاورها العصافير. تقع شقلاوة بين جبل سفين من الغرب وسورك من الشرق، فكتب لها الجغرافيا أن تكون ملتقى العظمة والخصب، شاهدةً على صمود الصخور وصلابة الحياة. وأرضُ شقلاوة لا تعرف الاستواء، بل تنبضُ بانحداراتٍ وصعوداتٍ متلاحقة، كأنّها موجٌ حجريٌّ تجمّد في لحظة خلود، تمشي فيها فيرافقك الإحساس بأنّ الطبيعة تجاذبك بين العلوّ والهبوط، لتُبقي خطواتك يقظةً وقلبك معلّقًا بجمالها المتغيّر.
شقلاوة ليست اسمًا واحدًا، بل أسماء تتعدد كأنها أرواح متعاقبة: شقلاباد عند ياقوت الحموي، شقلاباذ في طقوس الكنيسة، شقاباد في كتب المؤرخين، وشاقلي أوا في ذاكرة الباحثين. أسماء تتشعب، لكن جوهرها واحد: مدينةٌ تنبض بالحياة، وتتشرب من ينابيع الخلود.
أما الطبيعة في شقلاوة، فهي اليد السخية التي سكبت ألوانها في حضن البلدة، كأنّ الزمن نفسه خطّ ملامحها بريشةٍ من ضوءٍ وظل. في الشتاء ترتدي ثوب الثلج، وتتدفّأ بلهيب المواقد، وفي الربيع يفيض المطر فتتحول إلى لوحةٍ خضراء متوهجة، وفي الصيف يهب النسيم من بساتينها فيستمتع الزائر بطيب الهواء وينسى صخب المدينة. ثم يأتي الخريف، فيوشّحها بالذهب، وتتساقط أوراق الأشجار كشعلات صفراء على الدروب، كأنها تودّع الموسم بأغنية حزينة، سلاسل جبلية تحيط بها كأحضان الأم، ووديانٌ تتعرّج بين الصخور، وعيون مياه تتدفّق كأنها دماء الأرض النابضة فتنعش الروح كما ينعش النسيم وجوه العابرين. أما الغابات، فليست مجرد منظر، بل دعوةٌ للمشي والتخييم، وللسفر داخل الذات بين أصوات الطيور وأشجار الجوز والرمان.
وفي شقلاوة، لا يقتصر السحر على الطبيعة والجمال، بل تمتد آفاقه إلى العلم والمعرفة، حيث تحتضن المدينة كلية التقنية وكلية التربية، إلى جانب العديد من المعاهد التي تصقل العقول وتزرع في النفوس روح الفضول والاكتشاف، فتجعل منها منارةً يتلاقى فيها جمال الأرض وروعة الفكر، تنبض بروح التعايش، كأنها نغمة موسيقية تتردد بين أحضان الجبال، وتتعانق قلوب المسلمين والمسيحيين كما تتعانق أشعة الشمس مع ضباب الصباح، فلا تمييز، ولا تعصب، ولا شقاق، يتلاقى الناس على مزارات ومغارات قديمة، موروثة من الأجداد، فتصبح رموزًا حية للتسامح والانتماء، حيث تصبح العبادة والتأمل لغةً واحدة ينطق بها القلب، وفي أعماقها، تقف الكنائس، ويرتفع دير “الربان بيا” كحرفٍ من حجرٍ في كتابٍ عتيق، يشهد على حضور المسيحية منذ القرون الأولى.
وقد مرّت بها ذات يوم جالية يهودية صغيرة، لم يتجاوز عددها أربعمئة نفس، تركت بصمتها ثم غادرت مع موجة الهجرة عام 1955، وما تزال مناطقها المحيطة — من منتجع صلاح الدين إلى حَرير وهَيران — تُطوّقها كأقراطٍ من خُضرة، تمنحها بعدًا أوسع من جغرافيا المكان.
إذًا هي قصة عن الحياة المشتركة، عن الجمال الذي خلقه الله، وعن الناس الذين اختاروا أن يجعلوا منها وطنًا للسلام، والكرم، والمحبة لوحة حية من التضامن.
لكن شقلاوة ليست مجرد جغرافيا… إنها تاريخ حيّ، أول مدرسة، أول سيارة، أول دائرة، أول مكتبة… كل خطوة كانت فاتحة طريق، خطّها رجالٌ آمنوا بأن بلدة صغيرة يمكنها أن تفتح نوافذها على العالم، ولأن المدن تُقاس بخطواتها الأولى نحو الحضارة، فقد دوّنت شقلاوة سجلها بفخر؛ فأول مدير لها كان شفيق أفندي، وكأن يده وضعت القلم على صفحة التاريخ. ثم جاءت المدارس تباعًا كينابيع معرفة تتفجر؛ فمدرسة البنين عام 1922، تلتها ابتدائية البنات عام 1935، حتى ارتفعت أسقف التعليم إلى الثانوية المختلطة عام 1952، ثم إلى متوسطة للبنات عام 1965، ولم تهدأ الخطى حتى أنشئت إعدادية للصناعة عام 1984، ثم ازدان العقد بزهرة أخيرة حين تأسست أول كلية عام 2012
وفي طرقاتها، دارت عجلات أول سيارة عام 1928، يقودها واهان الأرمني، ثم تولى المقود كاكو أيليا، ابن البلدة، ليكون أول سائقٍ من أهلها، وعلى ضفة الحياة الأخرى، كان للطب نصيبه: ففي أواخر العشرينيات، افتتح مستوصف صغير في بيت مؤجر، يخدمه اسطيفان الموصلي وحيدًا، ثم شُيّد أول بناء صحي عام 1929، وكبر الحلم: مستشفى الجمهوري عام 1958 بـ 29 سريرًا، ثم توسّع في الثمانينيات إلى مئة وخمسين سريرًا، مع أجنحة متعددة.
وبين السطور المتناثرة من الذاكرة، وُلدت دوائر البريد عام (1938)، والنفوس عام (1940)، والغابات عام (1941)، ثم أشرقت شمس العدالة مع أول محكمة عام 1946 برئاسة القاضي أسعد الآلوسي، وفي عام 1952 دخلت الكهرباء بيوت الناس، وتولى شاكر فتاح منصب أول قائمقام في عهد المملكة العراقية، تبعته مشاريع المياه (1954)، ثم مكتبة عامة عام 1970، امتلأت بالكتب النفيسة، وإن ضاع معظمها لاحقًا، كأوراق الخريف، لكنه بقي في القلوب.
وفي شقلاوة، تجربة الطعام قصيدة ذات نكهة خاصة، ففي مطاعمها ومقاهيها، تتراقص النكهات كما تتراقص الشمس على قمم الجبال: كباب كردي مشوي على الفحم، خبز تنور يُخبز أمامك، مقبلات جبلية من لبن وزيتون ومربى منزلي، وشاي كردي يُقدّم في كاسات زجاجية على طاولات خشبية تطل على جدول ماء متدفق، كل لقمة تحمل عبق المكان وتاريخ الأرض.
أما الأسواق، فهي قلب نابض للتراث، متحف حي يضم عبق الماضي وروح الحاضر، فبين أروقتها تتراقص ألوان الطبيعة: عسل الجبال الذهبي، فواكه مجففة تحمل حرارة الشمس، زيوت عطرية تفوح بعبير الجبال، وصابون طبيعي يشبه شذى الغابة بعد المطر، وأشغال يدوية من خشب الجوز والصوف، كل قطعة تروي قصة المكان، وتهمس بتاريخ الأيدي التي صنعتها، أما الدكاكين الصغيرة تضج بالحياة، كأنها أسواق الأحلام، تملؤها روائح البهارات والحلويات التقليدية، هناك يُصنع الباسوق والسجوق، ويُعرض التمر هندي وخبز القيسي والكراز والجرزات النادرة، وكل صنف كقصيدة صغيرة، تنطق باسم الأرض وسحرها، كل زاوية، كل رف، كل رائحة، تشكل لوحة حسية متكاملة، فالأسواق ليست مجرد بيع وشراء، بل سيمفونية حية للتراث والحياة.
وللإقامة وسط هذا الجمال، هناك خيارات متنوعة: استراحات ريفية تبتعد عن ضوضاء العالم، فنادق تطل على الجبال والأسواق، منتجعات صغيرة فيها جلسات خارجية ومدافئ حجرية، وبعضها يقدّم إفطارًا كرديًا كاملًا، وبعيدًا عن المظاهر، يجد الزائر راحةً نفسيةً وسلامًا داخليًا لا يُقدَّر بثمن، لأن هواءه نقيّ، وهدوءه يملأ الأفق، تُنسيك هموم الحياة المثقلة.
هكذا، تتحول شقلاوة إلى لوحة حية، تجمع بين جمال الطبيعة وروح التراث، بين صفاء الجبال ودفء القلوب، بين عبق التاريخ ونبض الحاضر.
البريد الإلكتروني : Khuncha.ahmed@su.edu.krd