كتب عبد الوهاب البراري…… تونس
حين يذكر اسم يوغرطة، يتبادر لأذهاننا ذلك القائد النّوميدي حفيد ماسينيسا (ملك نوميديا) …يوغرطة القائد الحربي المولود سنة 160 قبل الميلاد والمتوفّي سنة 104 ق.م) قاوم الغطرسة الرومانية وهي في أوج سيطرتها على ضفّتي البحر الأبيض المتوسّط شمالا وجنوبا وكان رافضا لتك الهيمنة وعاقدا العزم على وضع حدّ لها.
يروّج بعض المؤرّخين أنّ ذلك المرتفع من الأرض الذي لا يشبه الجبال في شيء يخلّد اسم وتاريخ قائدنا النّوميديّ، قائد تحدّى الامبراطوريّة الرومانية دفاعا عن الأرض مؤمنا بالانتماء لترابها وتاريخها.
ويذهب البعض من المولعين بالتاريخ البشري البعيد أيضا الى رواية أخرى ويربطون اسم المكان بتلك المائدة التي طلبها الحواريّون من سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام لتكون لهم عيدا لأولهم واخرهم (الآية 114 من سورة المائدة)، دعا نبيّ الله ربّه بأن ينزل عليه مائدة. هذه المائدة لم تكن مجرد طعام، بل كانت آية ودلالة على صدق عيسى عليه السلام، ومناسبة سنوية تعظّم وتُكرّم”
يستشهد أصحاب هذا الرّأي أن مائدة يوغرطة هي ذلك الصّرح الصخري الموجود في غرب محافظة الكاف على بعد أربعة كيلومترات من مدينة قلعة سنان في الشمال الغربي من أرض تونس قريبا من الحدود الجزائرية، ويستدلّون بتلك اللوحة الشهيرة (العشاء الأخير) للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، والّتي رُسمت بين عامي 1495 و1498 وتُعتبر هذه اللوحة واحدة من أشهر الأعمال الفنية في العالم.
وللقارئ المولع الشّغوف أن يبحر عبر صفحات التّاريخ المتعلّق بالرّوايتين حتى يرسي زورق بحثه بأرض يقتنع بصحّتها وليسمّها بما شاء سواء كان القائد أو المائدة وان لم يكتمل اقتناعه بإحدى الرّوايتين فليشدّ الرّحال الى أرض الخضراء تونس فأهلها يجيدون فنون الضّيافة والكرم.
مضى انصار كلّ من الرأيين يدافع عن رأيه ويقدّمه مرتبطا باسم يوغرطة، وسواء كان أصحاب الرأي الأول أو الثاني هو الأقرب إلى الواقع والحقيقة التاريخيّة فإن ما يعنينا هو ذلك الصرح الصخري الذي اشتهر باسم مائدة يوغرطة، صرح أثري فريد من نوعه في بلد النخل والزيتون، إبداع إلاهي تحدّى التاريخ والتضاريس وكل العوامل الطبيعة على مرّ قرون عديدة وظلّ شامخا كنخل الإحساء في بلاد الحرمين الشريفين أو كأبي الهول يحرس أرض الكنانة منذ ألاف السنين لم تحركه رمال الصحراء ولا الرياح الأتية من الجنوب او كمدينة البتراء في مملكة الهاشميين.
مائدة يوغرطة هي عبارة عن مرتفع صخري لا يشبه في شكله الجبال المتاخمة له سواء التونسية منها او الجزائريّة، يشدّ نظرك إليه شئت هذا أو أبيت مسطّح في أعلاه، منبسط كمائدة طبيعية بطريقة عجيبة لا يقدر عليها سوى بديع السماوات والأرض
إنها مائدة يوغرطة.
أوّل ما يبهرك في هذا الصرح الفريد هو ذلك الارتفاع الشاهق 1272م عن سطح البحر، ومساحته المترامية الأطراف ثمانون هكتارا، أرض صخريّة متسعة …حين تصعد إلى أعلى المائدة عبر المدارج المنحوتة في الصّخر من الناحيّة الشرقيّة تتراءى لك من الغرب أرض الجزائر بلد المليون شهيدا، وأرض تونس من الشرق، وكأن تلك المائدة حارس أمين بين البلدين، أو كأنها فتاة غجريّة فاتنة ترمق جبال الجزائر في الغرب ومرتفعات تونس في الشرق في حياء حسناوات البلدين منذ آلاف السنين هذه المائدة تحتوي على خزانات سطحيّة وأخرى جوفيّة استغلّها الفينيقيون في حياتهم اليوميّة.
يروي لك الدّليل السياحي الوحيد وأنت ترافقه ما يشد انتباهك وكأنّ التّاريخ قد تجسّد فيه، فتستمع اليه في خشوع، روايات من وحي التاريخ والمكان، كل شبر على سطح المائدة يروي لك مشهدا وأسطورة من حياة مرّت عليها آلاف السنين وكأنها تمرّ بخيالك كفصول من شريط هوليودي يأخذك إليه لتصبح أنت أحد أبطاله وتنسى أنّك مجرّد متفرّج.
كل رسم منقوش ومحفور على الصخر يحملك في رحلة طواف تاريخي بطعم حكايات ألف ليلة وليلة زمن القائد النوميدي وبطل رحلتنا يوغرطة.
تاريخ يوغرطة سواء ارتبط بتلك المائدة الصخريّة أو بالقائد النوميدي فكلاهما ليس مجرد مسلسل أحداث تاريخيّة على صفحات كتاب دوّنته أقلام نوميديّة أو توثيقيّة إنّما هي رواية ملحميّة وأسطورة حيّة.
هذا الصرح الطبيعي لا يشبه أي شيء آخر… إنّه قطعة من كوكب آخر حلّ بأرض تونس.
على مائدة يوغرطة لا تسير وحدك، فالتاريخ يرافقك، يستوقفك رسم او رمز محفور على الصخر المصقول المسطّح كأنّه يخبرك عن فصل من تاريخ هذه المائدة وتاريخ تونس، أو يروي لك أحجيّة من الأسطورة سواء كانت متعلقة بالقائد أو بالمائدة.
وقد يخيّل إليك أن الأرواح التي تسكن المكان تهمس لك من بين الصخور الجلموديّة أن مرحبا بك في عالم بين الواقع والأسطورة
وسواء تحدّثنا عن القائد النوميدي يوغرطة أو عن مائدة الحواريين فالأسطورة وما وقع على أرض الواقع في هذا المكان لا يشبعان فضولك، فتتحوّل من زائر إلى باحث عن حقيقة وواقع الأسطورة، وتطول قائمة أسئلتك وتساؤلاتك.
يبقى أهم ما يمكن فعله هو العمل على الترويج لهذا المعلم التاريخي الفريد من نوعه حتى يصبح قبلة للمزيد من الزائرين والمولعين بالنبش في صفحات التاريخ المادي لهذا المعلم أو غيره، أملا في أن تحظى مائدة يوغرطة سواء كانت المائدة أو القائد وتحتل مكانها على صفحات اليونسكو كتراث إنساني جدير بالتعريف إلى جانب معالم أخرى أخذت حظّها من الخلود.