مقالات

برج الذهب بإشبيلية | مجلة السياحة العربية .. #السياحة_العربية

بقلم : م/ طارق بدراوى 

برج الذهب هو برج مراقبة عسكري تم بناؤه من الحجر في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادى ومايزال ينتصب شامخا على نهر الوادي الكبير في مدينة إشبيلية جنوبي أسبانيا وكأنه شاهد على الماضي الحربي والعمراني المجيد لحضارة الإسلام في الأندلس بأسرها وفي مدينة إشبيلية على وجه الخصوص وقد بني في عهد الخلافة الموحدية التي حكمت بلاد المغرب وجزء من بلاد الأندلس مابين عام 1121م وعام 1269م بغرض السيطرة على حركة المرور إلى إشبيلية وإلى بلاد الأندلس التي تليها ويمر بها نهر الوادي الكبير وإستخدم كسجن خلال العصور الوسطى وكسياج أمن لحماية المعادن الثمينة التي كانت تأتي بالسفن من الهند ومن أمريكا الجنوبية بعد إكتشافها في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين وقد أصبح هذا البرج متحفا منذ عام 1994م للبحرية الأسبانية حيث يضم المعدات البصرية الأثرية من العصور الوسطى التي إستخدمت في الرحلات البحرية من أجل إكتشاف الأمريكتين كما يضم نماذج مصغرة لأنواع السفن خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ويضم أيضا عدد من اللوحات والرسوم لأشهر المعارك البحرية وأيضا بعض المدافع من القرن السابع عشر الميلادى ونماذج من الأسلحة البحرية ودراسات من القرن التاسع عشر الميلادى توضح منسوب مياه الأنهار في أسبانيا وبعض الأواني الفخارية إلي جانب عدد من الأعلام والرايات البحرية ويبدو واضحا أن الحكومة الأسبانية ربطت بين البرج وبين عصور الإستكشافات الجغرافية وما رافقها من حروب واسعة فبالإضافة إلى روايات تكديس كنوز العالم الجديد بالبرج فإن الشارع الذي يمر عبر موقع السور القديم قد أطلق عليه إسم المستكشف الشهير كريستوفر كولمبس ولذا فقد أصبح هذا المتحف من المزارات السياحية في أسبانيا ويأتي إليه آلاف السياح سنويا من الشرق والغرب .

thumbnail (5)

وبرج الذهب كما يطلق عليه أهل هذه المدينة الأسبانية الرائعة ليس سوى البقية الباقية من الأسوار الموحدية وأبراجها التي أكسبت إشبيلية شهرتها كواحدة من أكثر المدن الأندلسية مناعة وتحصينا ويحكي هذا البرج واحدة من حلقات تاريخ إشبيلية الحافل بالحروب والصراعات منذ نشأتها الأولى على يد الأيبيريين وتقلبها بين الغزاة والفاتحين من الفينيقيين والإغريق والقرطاجيين وكانت تسمي أشبالي ثم دخلها الرومان عام 205 ق.م وأطلقوا عليها أشباليس ثم إستولي عليها القوط الغربيون وجعلوها حاضرة ملكهم وذلك قبل الإنتقال إلي طليطلة عام 507م وأخيرا دخلها الفاتحون المسلمون الذين لم يتمكنوا من فتحها في موجة الهجوم الأولى التي قادها طارق بن زياد ولكنهم وصلوا إليها في موجة ثانية من الهجوم قادها موسى بن نصير الذي إفتتحها بعد حصار دام عدة شهور نظرا لحصانة ومناعة أسوارها وقد عرب المسلمون هذا الإسم الأخير الى إشبيلية وإشتق الأسبان بدورهم منه الإسم الحالي للمدينة سفيليا وفي البداية وقع إختيار موسى بن نصير أول ولاة الأمويين بالأندلس على إشبيلية لتكون حاضرة لولايته وذلك لوقوعها على مقربة من الشاطئ المغربي حيث توجد قواعد الجيوش الإسلامية ولإرتباطها في ذات الوقت في يسر ودون عوائق تذكر بسائر المدن الأندلسية وعندما تولى الحر بن عبد الرحمن الثقفي الأندلسي الإمارة في نهاية عام 98 هـجرية الموافق عام 717م من قبل الخليفة الأموى السابع سليمان بن عبد الملك أمر بتحويل العاصمة الأندلسية الى مدينة قرطبة وقد أثر هذا التحول على التواجد العربي بالمدينة اذ فضل أغلب الفاتحين النزوح للإقامة في العاصمة قرطبة ولم يبق بالمدينة سوى عدد قليل من العرب فيما زخرت المدينة بعدد كبير من النصارى الأسبان بإعتبارها المركز الديني المسيحي الأول في أسبانيا منذ عهد القوط الغربيين ولكن هذا الوضع الإستثنائي لم يستمر طويلا وإستمر فقط حوالي ربع قرن ذلك أن الخلافة الأموية في دمشق قامت بإرسال فرقة من الجيش الأموي كانت تعسكر بمدينة حمص للإقامة بإشبيلية لحماية سواحلها وما أن دخلت المدينة في عام 124 هجرية الموافق عام 742م في عهد الخليفة الأموى العاشر هشام بن عبد الملك حتى أخذت القبائل العربية في التدفق على إشبيلية مثل بني موسى من بيت غافق وبني زهرة وبني حجاج وبني خلدون .                        

thumbnail (4)

وكان السبب الرئيسي في بناء هذا البرج هو التخوف من هجوم الأسبان علي إشبيلية ومن ثم قام آخر أمراء الموحدين بالأندلس وهو أبوالعلاء إدريس الكبير بتشييده ففي عام 617 هجرية الموافق عام 1221م شيد هذا الوالي برج الذهب وربط بينه وبين أسوار قصر الوالي بسور قصير عمودي عليه وهو يسمى في مصطلح أهل الأندلس آنذاك قورجة حبث كان موقع المدينة على نهر الوادي الكبير مطمعا للغزاة ومن ثم كان الحرص على تشييد أسوار للمدينة خاصة من جهة النهر وقد قصد إدريس من بناء هذا البرج أن يكون نقطة دفاع حصينة عن قصره تضاف إلى سورين متعاقبين أحدهما أطول يحيط بمباني إشبيلية وآخر خارجي أقصر يلاصق النهر وقد ألحق ببرج الذهب هذا السور الخارجي وكانت هناك سلسلة حديدية ضخمة يمكن أن تمد عبر مجرى النهر لتربط في برج آخر بالضفة المقابلة من أجل منع سفن الأعداء من المرور بنهر الوادي الكبير وكان هذا التقليد المعماري المقتبس من بلاد المغرب جديدا على الأندلس ولطالما عرف السور الخارجي بالبراني مع التسليم بأنه وإن كان أقل منعة من السور الداخلي إلا أن إستخدام القورجة وتزويده بالأبراج الدفاعية الحصينة مثل برج الذهب قد أكسبه مناعة يصعب على أسلحة العصور الوسطى إنتهاكها بسهولة إلي جانب أنه يقوم بمهمة الإنذار المبكر في حالة وقوع هجوم علي إشبيلية لكي يتم الإستعداد له وإعداد العدة لمواجهته وتجدر الإشارة إلى أن المسافة بين السورين كانت تملأ بماء النهر في أوقات تعرض إشبيلية للهجوم .

thumbnail (3)

ويفسر المؤرخون سبب تسمية هذا البرج ببرج الذهب بأن جدرانه الخارجية كانت مكسوة ببلاطات خزفية ذات طلاء ذهبي ومن ثم كان البرج في الليل المقمر ينعكس على صفحة الماء بلون أصفر متلألئ كلون الذهب وقد إحتفظ الأسبان بنفس الإسم وحافظوا عليه بعد إستيلائهم على إشبيلية في عام 646 هجرية الموافق عام 1248م وربما كان ذلك تقديرا للبرج الذي صمد طويلا مع أسوار المدينة ضد حصار أسباني إستمر 15 شهرا لم تفلح خلالها القوة في إخضاع المدينة التي إضطر الأندلسيون إلى تسليمها تحت وطأة الجوع ونقص الغذاء ولذا فهذا البرج الشامخ الذي لم يسقط بيد مهاجم قط إستحق أن تخلد ذكرى إسمه القديم وعلي الرغم من ذلك فإن الروايات الأسبانية ترى أسبابا أخرى لهذه التسمية فمن قائل إن الملك بيدرو الأول ملك أسبانيا والبرتغال مابين عام 1357م وعام 1367م قد أودع كنوزه ونفائسه ومنها الذهب في هذا البرج ولذا فقد سمي ببرج الذهب وهناك من يؤكد أنه كان يتم تخزين الذهب والفضة الواردين من أمريكا اللاتينية في القرن السابع عشر الميلادى بداخله بعد إكتشافها وخضوع اغلب بلادها للتاج الأسباني .

thumbnail (1)

ويتكون برج الذهب من بدنين يعلوهما جوسق حديث ويبلغ إرتفاع البرج المشيد في أغلبه بالحجارة حوالي 37 مترا والبدن السفلي له شكل هندسي متعدد الأضلاع حيث يبلغ عدد أضلاعه 12 ضلعا تتراوح أطوالها بين 4,10 و4,20 متر وقطره حوالي 15 مترا بينما يصل إرتفاع هذا البدن السفلي إلى 23,10 متر ويعتبر ذلك تفنناً ونوع من الإبتكار المعمارى في صناعة الأبراج في ذلك الوقت فقد كانت الأبراج إما دائرية أو مربعة أو مسدسة أو مثمنة كأقصى حد لكن معماريي الموحدين أرادوا التفنن والإبتكار فجاء شكل هذا البرج ذا 12 ضلعا وقد شيدت قاعدة البرج وزواياه بالحجر في حين شيدت جدرانه ما بين الزوايا بالطوب الأحمر ولهذا البرج مدخل أو باب مشيد بالحجر ولا يتجاوز إتساعه 1.25متر ويعلو فتحة الباب لوحة سجل بها باللغة الأسبانية ما يفيد تجديد البرج وترميمه في عام 1900م وبهذا البرج فتحات للتهوية والإضاءة وأيضا مزاغل لرمي السهام ويتألف البدن الأسفل من ثلاثة طوابق تربط بينها درجات سلم حجري أما البدن العلوي للبرج فهو من كتلة بنائية مشيدة بالطوب الأحمر وهو وإن كان أصغر حجما من سابقه فإن له أيضا 12 ضلعا ويصل إرتفاعه إلى 8.15 متر ويزدان أعلى هذا البدن بزخارف من الخزف الأندلسي الذى يسمي الزليج أى الفسيفساء وهي على شكل معينات بالألوان الخضراء والبيضاء محصورة داخل أشرطة من الخزف الأزرق تحيط بدخلات تحتوي هذه الزخارف ويلي ذلك طوق حديدي ملتف حول هذا البدن وهو من التجديدات التي قام بها الأسبان أثناء تجديد البرج في عام 1900م .

thumbnail (6)

thumbnail

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى