مقالات

العطار … بقلم / م”طارق بدراوى” | مجلة السياحة العربية .. #السياحة_العربية

** العطار **

العطارة هي مهنة تحضير المحاليل وبيع الأعشاب لمداواة المرضى وهي مهنة سبقت الصيدلة بزمن طويل ويرجع تاريخ هذه المهنة لحوالي 2600 سنة قبل الميلاد حيث وجد في لوحين طينيين سومريين نصوص طبية مسمارية ممزوجة بطلاسم دينية تصف أعراضا ووصفات مع كيفية تحضيرها وكذلك في بردية إبيرس التي كتبت حوالي عام 1500 سنة قبل الميلاد والتي حوت أكثر من 800 وصفة وذكرت ما يزيد عن 700 دواء مختلف وعند اليونانيين القدماء أيضا كتب ديسقوريدوس كتابه أدوات الطب نحو عام 60  بعد الميلاد الذي كان بمثابة قاعدة علمية ونقدية لبائعي الأدوية والأعشاب وطيلة هذه المدة لم يكن الفرق واضحا بين العطارين والمشعوذين حتي بروز الحضارة الإسلامية  حيث ظهرت في بغداد محلات عطارة يقوم عليها صيادلة عرب منذ عام 750م في عهد الخلافة العباسية ومهنة العطارة واحدة من المهن التي لم يمحها التطور العلمي والتقني في زمننا الحالي وإن كان المثل الشعبي يقول لا يصلح العطار ما أفسده الدهر قد خلد إسم المهنة على لسان الناس وحافظ عليها كواحدة من المهن التقليدية وربما لم يعد العطار اليوم يحل محل الطبيب ولكنه بلا شك ظل يملك مكانته الأثيرة وخصوصيته عند الناس كبائع للأعشاب الطبية والغذائية ولاسيما تلك التي دلل العلم على فوائدها ومكوناتها الغذائية المفيدة للجسم ومعالجة عدد من أمراضه ولعل في تاريخ مهنة العطارة القديم وثقة الناس العاديين فيها ما سمح للأسف الشديد للبعض أن يستغل ذلك أحيانا في ما يشبه ممارسة النصب والدجل والشعوذة على الناس الأمر الذي لطالما حذر منه أبناء المهنة الأصليين .      

thumbnail (1)

ومعظم أصول العطارة وموادها كانت في الأصل شرقية هندية وصينية وإيرانية فارسية ومنها ما هو مصري أو مغربي أو يمني ولعل تركزها في هذه المناطق يعود لطبيعة العمق التجريبي عند شعوب الشرق من جهة وما أنعم الله علي تلك البلاد من خيرات الأرض من بذور وبهارات وأعشاب وعلي الرغم من أن مواد العطارة قد عمت الأرض وتعرف عليها حتى الغرب إلا أنها مازالت في مواطنها الأصلية تنبت بريا أو تزرع أحياناً ومن ثم يتم حصادها وجمعها وفق شروط معينة ومن ثم يتم تصديرها إلي خارج موطنها الأصلي وقديماً كان العطار بمثابة صيدلي يعاضد الحكيم بل كان يحل محل الحكيم أحياناً فهو يصف الأعشاب والمواد الطبية للحمى والأمراض الباطنة ويعالج ويداوي ما يصفه له المريض من آلام  ومعاناة وقد إعتمدت مهنة العطارة بالأساس على الكتب العشبية الطبية ولكن بلا شك أن القنوات الفضائية العديدة قد لعبت دورا تجاريا أحيانا شوه المهنة وأساء إليها حيث أن الكثير منها يقوم بالترويج لمستحضرات عشبية معلبة منها ما يحمل مغالطات طبية سرعان ما يتم إكتشافها عندما تظهر نتائج غير مرضية علي المرضى كما أنه إلي جانب ذلك هناك الكثير من النباتات العشبية لا تصنيف لها يعتمد مستخدموها على الفلاح البسيط الذي يقطفها ويقارنها بصور من كتب موجود لديه وينزلها للسوق ويبيعها بأسماء مغلوطة حتى أنه أحياناً تباع نبتة واحدة بأسماء متعددة وينسب ذلك إلي العطارين ولذلك يطالب العطارون بإصدار قانون ينظم مهنة العطارة وبيع الأعشاب الطبية كما أنهم يعارضون الأصوات التي تنادي بإلغاء المهنة وذلك لأن إلغائها يضر بأصحاب محلات العطارة والعاملين لديهم وخصوصا أنها لا تكتفي ببيع النباتات الطبية فقط بل إنها تبيع أيضا التوابل والبهارات وتعد مصدر رزق للكثيرين.

thumbnail (4)

 وقد عادت العطارة إلى السطح وبقوة مؤخرا فبعد أن كادت أن تنقرض صار الناس أكثر إقبالا على محلات العطارة من ذي قبل خصوصا وأن الطب الحديث قد عجز حتي الآن عن علاج الكثير من الأمراض وأصبح يطلق عليها لفظ الأمراض المستعصية بل إن كثير من الناس صار يهرب من الأدوية الكيميائية ذات المضاعفات والآثار الجانبية ويبحث في العطارة عن العلاج الطبيعي والآمن كما كان يفعل الأجداد قديما إذا ما أصاب أحدهم مرض أو علة ما ولا يجب علينا أن ننسى النساء فقد حدثت ثورة كبيرة بعودتهن إلى الطبيعة وإلى الأعشاب والمواد العلاجية خصوصا فيما يتعلق بالجمال فصارت المرأة تحرص على إستخدام الحناء والغسول وصابون الغار والطين البركاني وغيرها من المواد الطبيعية المتوفرة في محلات العطارة وهكذا إسترجعت الأعشاب التجميلية رونقها وعاد للعطار دوره في بيع وإعطاء الوصفات الطبيعية وسبب هذا الرجوع إلى الماضي راجع أساساً إلى الموجة التي يعرفها عالم التجميل اليوم والتي أصبحت تدعو للعودة إلى الطبيعة وإلى مكوناتها وتحذر من المواد الكيماوية المستعملة في مستحضرات التجميل كما أن إنخفاض تكاليف المواد الطبيعية وبالمقابل إرتفاع أسعار المستحضرات التجميلية العصرية له دور في هذه العودة وعلي سبيل المثال سنجد أن الأعشاب الطبية لها شهرة واسعة فى علاج كثير من الأمراض فالكمون مثلا مفيد جدا فى التخسيس وطرد الغازات من البطن والزعفران يستخدم فى العلاج النفسى والتوتر وكمقوى عام وكذلك يستخدم لعلاج الضغط ونبات المورينجا يحتوى على 45 حامض أميني ويستخدم كمقوى للقلب والشرايين وضغط الدم وعلاج السكر وإلتهاب الكبد والكلى أما الخردل الأبيض فزيته يستخدم لعلاج الشعر والجلد والشرايين والينسون يستخدم في علاج إلتهابات الحلق .     

thumbnail (3)

ويلاحظ أن  المرضى الذين يترددون علي محلات العطارة طلباً للعلاج بالأعشاب أكثرهم يكونون مصابين بأمراض الكلى بسبب تلوث مياه الشرب وكذلك أمراض الكبد بسبب تلوث الخضراوات أما السيدات فيعانين بشكل عام من نقص الكالسيوم الذى يتسبب فى آلام المفاصل وسقوط الشعر وفي أحيان كثيرة يكون هؤلاء المترددون علي محلات العطارة أطباء وصيادلة حيث أنهم يعرفون قيمة التداوى بالأعشاب الطبية ومن العطارين من يكتسب مع الزمن وبالتجربة الدراية والخبرة في ذلك المجال ومن ثم تؤهله خبرته فى التداوى بالأعشاب أن يضعه أهل المهنة في مكانة مرموقة بين العطارين من زملائه ومن ثم يقوم بنقل خبرته إليهم ويعلمهم أهمية كل عشب وكل بذرة يستخدمونها ويعالجون بها الناس والأهم تذكيرهم على الدوام بأهمية الرسالة التى يقومون بها وذلك إيمانا منه بأن العطارة رسالة وتحتاج لضمير حي ممن يمارسها إذ فى غياب الضمير يمكن أن يفعل العطار أى شىء وكم من العطارين خربت بيوتهم بسبب عدم تحكيم ضمائرهم فالضمير الغائب فى العطارة قد يؤدى بصاحبها لأن يفعل أى شىء كأن يتاجر فى المخدرات مثلا وهو الأمر الذى تم تجسيده في فيلم العار الذى تم إنتاجه عام 1982م ومن إخراج علي عبد الخالق عن قصة للروائي محمود أبوزيد والذى قام ببطولته نور الشريف وحسين فهمي ومحمود عبد العزيز وعبد البديع العربي ومحيي الدين عبد المحسن وطارق الدسوقي وحافظ أمين وأمينة رزق وإلهام شاهين ونورا وتم تصويره فى أحد محلات العطارة الموجودة بشارع تحت الربع حيث كان رب العائلة صاحب محل العطارة يقوم فيه بالتجارة فى المخدرات إلى جوار العطارة .     

thumbnail (5)

ولعل موضوع الخلط بين مزاولة مهنة العطارة وبين الإتجار في المخدرات ربما يرجع إلى أن المخدرات كانت قديماً تدخل فى باب العطارة قبل أن يصدر قانون يجرم الإتجار فيها وتداولها كما أن العطارين ظلوا لفترة يبيعون بذرة الخشخاش بتصريح خاص من جهات الأمن حتى ألغى التصريح ودخلت البذرة أيضا فى حيز التجريم وبعيدا عن تجريم القانون فإن المخدرات مثل أى شىء فى الدنيا لها عيوب ومميزات فالأفيون مثلاً الذى يستخدم كمخدر لو تم تسخينه مع بعض الأعشاب الأخرى يمنع ظهور الشعر نهائيا كما يمكن إستخدامه كمسكن للآلام الشديدة مثل المغص الكلوى الحاد أما الحشيش فهو يفيد فى علاج أمراض كثيرة لكنه إستخدم فى مصر إستخداما خاطئا بتدخينه كمخدر وعادة لا يتوقف البيع والشراء في محلات العطارة على مدار العام لكن رمضان له نكهة خاصة حيث أن أغلب من يترددون على محلات العطارة من ربات البيوت الذين يكثرون من شراء التوابل لإستخدامها فى طهي الطعام أما الياميش فعادة لا تتاجر فيه محلات العطارة وتكتفي فقط  ببيع التمر الجاف الذى يكون بيعه رائجا جدا طوال شهر رمضان المعظم .                 

thumbnail (6)                 

ولم تغب مهنة العطارة عن السينما والدراما المصرية إذ قُدمت في الكثير من الأفلام والمسلسلات ففي السينما فبالإضافة إلي فيلم العار المذكور في السطور السابقة كانت أفلام الثلاثية الشهيرة لنجيب محفوظ بين القصرين وقصر الشوق والسكرية والتي قام بإخراجها حسن الإمام والذى لقب بمخرج الروائع والتي لعب بطولتها الممثل الكبير يحيي شاهين في دور السيد أحمد عبد الجواد صاحب محل العطارة بحي الجمالية بالقاهرة كما ظهرت شخصية العطار أيضا في فيلم سر طاقية الإخفاء إنتاج عام 1959م ومن إخراج نيازى مصطفي بطولة الفنان الراحل عبد المنعم إبراهيم والفنان توفيق الدقن والفنان عدلي كاسب والفنانة زهرة العلا والفنانة برلنتي عبد الحميد والفنانة جمالات زايد وفي فيلم الحفيد إنتاج عام 1975م إخراج عاطف سالم فقد ظهر فيه الحاج رجب العطار والذى يعد عميد العطارين المصريين ومحله من أكبر وأشهر المحلات في شارع الأزهر بشخصيته الحقيقية مع الفنان الراحل عبد المنعم مدبولي والفنانة كريمة مختار اثناء قيامهما بشراء مواد العطارة اللازمة لعمل سبوع حفيدهما أما  في الدراما فكلنا يذكر مسلسل العطار والسبع بنات الذى تم أنتجته مدينة الإنتاج الإعلامي عام 2003م وكان من إخراج محمد النقلي عن قصة للروائي مصطفي محرم ولعب دور البطولة الفنان الراحل نور الشريف في دور عبد الرحمن العطار وشاركه البطولة الفنان عماد رشاد والفنان سعيد طرابيك والفنان فاروق فلوكس والفنانة سمية الألفي والفنانة هالة فاخر والفنانة ماجدة زكي والفنانة سوسن بدر والفنانة لقاء سويدان والفنانة بثينة رشوان والفنانة فريدة سيف النصر والفنانة عائشة الكيلاني .                    

thumbnail             

 ولم تغب مهنة العطارة أيضا عن الأمثال الشعبية فكان منها المثل المذكور بصدر هذا المقال وهو لايصلح العطار ما أفسده الدهر ويضرب في حالة من يحاول أن يصلح من أخطائه مثلما يحاول البعض ممن تقدم بهم العمر أن يعيدوا إليهم الشباب بإستخدام خلطات من عند العطار ولكنها بالطبع لا تحقق النتيجة المرجوة وهناك مثل آخر هو أنه ليس كل من باع العطارة صار عطارا ويضرب في حالة من يعمل لدى صاحب مهنة معينة أو لدى صنايعي أو لدى مهني ويحاول أن يتقمص دور صاحب المهنة أو الصنايعي أو المهني وهو لايمتلك العلم ولا الدراية ولا الخبرة التي تؤهله لذلك ولايفوتنا في هذا المقال أن نذكر إن محال العطارة في القاهرة توجد في منطقة شارع الأزهر وماحولها مثل الغورية وتحت الربع وفي الإسكندرية كان هناك سوق كبير للعطارين حتي فترة الخمسينيات من القرن العشرين الماضي حتي أن الحي الذى وجد به هذا السوق تمت تسميته حي العطارين وهو يقع ضمن نطاق حي وسط الإسكندرية كما سمي الشارع الرئيسي به أيضا بشارع العطارين وهو الشارع المتواجد على مقربة من المسرح الروماني أحد أهم آثار مدينة الإسكندرية من العصر الروماني كما سمي المسجد الموجود قرب هذا السوق أيضا بمسجد العطارين والذى يعود تاريخ إنشائه إلي العصر الفاطمي حيث تم بناؤه في شهر ربيع الأول عام 479 هجرية الموافق شهر يونيو عام 1086م في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله علي يد أمير جيوشه بدر الدين الجمالي وقد كان هذا السوق مركزا تجاريا مهما إشتهر بتجارة التوابل والعطور خاصة بعد الفتح العربي لمصر علي يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص عام 21 هجرية الموافق عام 642م في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وإعتبرت تلك السوق من أشهر أسواق العطارة في العالم ولكن للأسف بمرور الزمن إختفت محال ودكاكين العطارين من هذا السوق وظهرت بدلا منها محال بيع التحف والأنتيكات والأثاث القديم والجديد والملابس الجديدة والمستعملة ومحال بيع طيور وأسماك الزينة وشتلات النباتات بداية من فترة الخمسينيات من القرن العشرين الماضي والتي إعتمد نشاطها على شراء ممتلكات الأجانب منهم أولا والذين غادروا المدينة وهاجروا خارج مصر ثم بيعها لمن يرغب بعد ذلك وبذلك إختفت محال العطارة من هذا السوق تقريبا وإن ظل يحمل إسم سوق العطارين ولكن بلا عطارين . 

thumbnail (5)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى