قصة التسع والتسعين نعجة

كتب_أحمد الزهراني

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

من القصص التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة (ص)، قصّةٌ حصلت مع النبيّ داوود الّذي أتاه الله، إلى جانب النبوّة، الملك، قائلاً له: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ…}.
. هذه الآيات في قصة خصومة وقعت عند داود عليه الصلاة والسلام وهو أحد الأنبياء الكرام أحد أنبياء بني إسرائيل
وقد حصلت هذه القصّة يوم قرَّر النبيّ أن يخلو بنفسه، في مصلاه ، ولذلك طلب من حرَّاسه أن لا يُدخلوا عليه أحداً. إذ دخل رجلان عليه خلسةً، فسوروه أي قفزوا من السور حتى دخلوا على داود ولما كان دخولهم هذا غير معتاد فزع منهم فظنّ داوود أنهما يريدان به السّوء، ففزع منهما، كما أشار القرآن الكريم: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ…}. ولكنّهما سارعا إلى تطييب نفسه وإسكان روعه، وبيّنا سبب قدومهما إليه، ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داود، وقال: هذا أخي، له(99) نعجة، وأنا لا أملك إلاّ نعجة واحدة، وإنّه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمّها إلى بقيّة نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ (إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب). أي شدَّد عليّ في القول وأغلظ، ولم أعد قادراً على ردِّ طلبه، وأنا جئت إليك لتعينني عليه وتنصفني.
استثار هذا الكلام النبيَّ داوود وسارع إلى التَّعاطف مع الشّاكي، فيما أبدى انزعاجه وغضبه من هذا الأخ الذي كان عليه، وبمقتضى الأخوّة، أن يعطيه من نعاجه التسع والتسعين، لا أن يأخذ منه نعجته الوحيدة التي لا يملك غيرها. لذا، التفت إليه، وقبل أن يسمع كلام الأخير، وقال له: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِه} ظلمك بهذا الطلب، لذا من حقّك أن لا تعطيه إيّاها. ثم أضاف قائلاً: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، أي إنّ ما فعله أخوك ليس بالأمر الجديد، فهناك الكثير من الإخوة والأصدقاء والجيران، يبغي بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضاً، فلا يراعون في تصرّفاتهم حقوق الأخوّة والصّداقة والجيرة، ولا يأخذون بمقتضيات العدل، بل كلّ همّهم يتمثّل في تحقيق مصالحهم! نعم، وهذا لا يحصل من الذين آمنوا وعملوا الصّالحات.
جاء الحكم حاسماً من النبيّ داوود لمصلحة الشّاكي صاحب النّعجة الواحدة وإدانة الآخر. وذهب الرّجلان من دون أن يصدر عن الأخ المشكوّ أيّ تبرير أو تفسير للطّلب غير المنطقيّ بضمّ نعجة أخيه إلى نعاجه، على الأقلّ ليدافع أخلاقيّاً عن نفسه، وليحفظ ماء وجهه أمام النبيّ الّذي وضعه في خانة الباغين.
غادر الأخوان المتخاصمان المكان، لكنّ النبيّ داوود غرق في التّفكير بعد مغادرتهما، ورأى أنّه قد استعجل في الحكم!! فقد كان عليه أن يسأل الطّرف الآخر ثم يحكم بينهما، حتى لو كان واثقاً بأنّ الحقّ مع الطرف الأوّل، فمن أصول مجلس القضاء هو الاستماع إلى المدَّعي ثم المدَّعى عليه، وبعدها يكون الحكم.
ندم النبيّ داوود كثيراً على ما حصل، فتوجَّه إلى ربِّه ليعتذر منه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}. ويُروى في ذلك أنَّ النَّدم بلغ من داوود أنه قضى ما تجاوز الأربعين ليلةً في طلب الاستغفار على ما بدر منه.
وقد قبل الله اعتذاره: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ} ليشير بعد ذلك إلى المنزلة الرّفيعة لهذا النّبيّ، فقال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ}

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *