نشأت الجليلة في أحد القصور المرفّهة بالحاضرة تونس هي سليلة البايات من أمّ صقلّية فاتنة فورثت عن أجدادها نبل الملوك وعن أمّها حلاوة الطّبع. استأثرت منذ صغرها باهتمام العائلة الموسّعة وتزاحمت في طِلابها رغبات الأميرات في ان تكون قرينة أحد أبنائهم الأمراء المؤهّلين للسّلطة إلاّ أنّها ورغم اعتدادها بنقاء سُلالتها فقد كانت فتاةً حالمةً مولعة بالموسيقى والعزف على آلة البيانو الأرستقراطية إذ تلقّت دروسا من أستاذها الإيطالي “جيوفاني” الذي كثيرا ما أثنى على ألمعيّتها في التلقّي وحسن صوتها في أداء الأغاني الأوبيرالية حتى أمسى صوتها طلب الأمراء والأميرات في غالب حفلاتهم.. وهي التي لا تفوّت على نفسها ارتياد المسارح وحضور مواعيد الموسيقى طرب روحها وغذاء بسماتها وانشراحها…
كانت الصّبية كثيرة المرح في حدائق القصر تعدو خلف الفراشات دون أن تمسّها بسوء كانت شقراء تهتزّ ضفائرها خلفها وعيناها برقاوان يموج فيهما زهر تعشقه ويؤلمها قَطفُه من الباش جنّانين لتزوّق به الجواري أركان البلاط الفسيح وحين ستصير ذات أوامر تُطاع في قصرها الصّغير ستمنع الجميع من الإجرام في حقّ الورد بل هو سيلقى منها ومن إسماعيل الجنّان كلّ رعاية وعناية والزّهر من الكائنات المقدّسة بمحرابها وهي تسيّر ما يشبه القدّاس الجنائزيّ لجَنيها وقد ذبُلت منها الحياة وهي في أعثاقها وجفّت فتجمعها هي وإسماعيل في أكياس سعفية وتخزّنها بكاف القصر في صناديق منقوشة من جيّد الأخشاب لتعطّر بها مربّيتها حمّامها الأسبوعيّ وهي عادة ورثتها عن نانا زليخة أمّ باي الجباية .. كان لها حمّام نورانيّ فسيح فوانيسه خافتة ومسبحه الرّئيسيّ تعطّره الأزاهير النّادرة تسعى فيه جاريتان تساعدانها على التّلذّذ بالماء الدّافئ وقد فاحت منه عطور ما فارقت أنف الصّبيّ منذ زيارته رفقة ابنيْ القايد…
اعتادت الجليلة ركوب درّاجة هوائية أهدتها إيّاها أميرة إيطاليّة فكانت تجوب بها كلّ المسالك بالحدائق قبل أن يطرأ في قلبها تعلّق بالفروسية بعد ان منحها الباي مُهرا بمناسبة عيد العرش فتعلّقت به ونقلت إسماعيل من الحدائق ليكون السّائس الخاصّ لحصانها المدلّل وأمست تركبه بجولاتها الصّباحية أو بمزارع البلاط.. وتنامت بقلبها الرّقيق الأماني وهي المنفتحة الانفتاح كلّه على عوالم الجمال الحالم المخترقة لكلّ أجنحة القصر بما حوت وهي رفيقة بجميع من يختلجون إليه من أمراء وعسس وخدم فلا تمرّ بفرد أو جماعة إلاّ مُسلّمةً في سرور ولا يراها وجهٌ إلاّ هشّ ولا عينان إلاّ أنستا حتى احتلّت كلّ القلوب وعطفت إليها كلّ اهتمام وباتت حديث النّاس ومنى الأمراء والفرسان…
… مرّت من عمرها عقودٌ خمسةٌ فما زادها الزّمان إلاّ جمالاً وخَفرًا.. فلمعةُ عينيها برّاقةٌ وشعرها ذهبيّ مولع بالفضّة وخدّها أسيلٌ وشفتاها ساحرتان فكأنّ لا أيّام مرّت من هنا ولا متاعب شغلت هذا البدرَ .. هيّ امرأة عبلةٌ ممتلئةٌ في غير سِمن هيفاء في غير عجف باسمة في غير فُحش ميّاسةٌ كيّسة ذات دلّ وحياء يُورّد خدّيها ويزيد في سنائها…
تدخل مطبخ ابنتها فتتخلّص من قبّعتها الأميرية وقفّازيها وخواتمها تأخذ معجنة تغربل فيها كيلوغراما ونصف الكيلوغرام من دقيق فارينةً وتُضيف إلى المغربل ملعقةً ملحًا ذوّبتها بماء ونصف كوبٍ زيتًا يكاد يضيء وأدخلت يمناها في المِعجنةَ وباليسرى إبريق به ثلاثة أرباع اللّتر ماءً وشرعت تحرّك باليمنى ما تسقي به أختها الدّقيق وحين تماسك العجين رفعت الإبريق وأنشأت تدلك العجين بلُطف دون أن تمدّده كي لا يُمزّق وظلّت تعالجه حتى أينعت قطعة العجين فأخذت سكّينا وقطعته نصفين متساويين وقسّمت الأوّل خمسة عشر قسما متساوية أمّا الثاني فجعلت منه قطعة مضاعفةً ثمّ قسّمت ما بقي إلى نفس عدد القسم الأول وغطّت أقسام العجين بعد أن حرصت علي تكوير كلّ قسم على حدته أشكالا بيضاوية سويةً للكُمون لمدّة عشرين دقيقةً…
ثمّ انصرفت الجليلةُ في خُيلاء من يُمتحن في لُعبة يُتقنها وبسمتها لا تنقشع عن وجهها الآسر إلى قدر نحاسيّ أنيق تضع فيه ثلاث كيلوغرات سكّرًا ولترا ماءً وتوقد تحته نارا رصينة حتّى يغلي ويقلّ ماؤه حينها تتناول عصير ليمون أعدّه خادم وتُضيف إلى عسل البقلاوة ملاعق ثلاثا منه وأربع ملاعق ماء عطرشاء عطر وتَذَره ليغليَ لمدّة خمس دقائق قبل أن تُخمدَ ناره فقد جهز السّقاءُ العسلُ..
تعود الجليلةُ إلى كريّات عجين البقلاوة لتطرحها على منثور النّشا بمساعدة إسطوانة “القلقال” ثمّ تمسّدها بمسحوق النشا في غير إكثار وتحفظها في مطويات مناديل بيضاء الواحدة فوق الأخرى وتتركها لتهدأ لمدّة نصف ساعة.. وفي الأثناء تأخذ في إذابة كيلوغرام زبدة وتزيح الزّبَدَ الذي يعلو الإناء نتيجة المعالجة بالنّار.. ثمّ تدهن قاع الطّبق بزيت الزّبدة مليّا. ثمّ تتناول ورقات العجين ثلاثة ثلاثة وتأخذها بالأطراف ممطّطة في رفق حتى لا تتمزّق وتنشرها على كامل مساحة طبق “الصّينية” فتغطّيه كلّه وتدهن الورق بالزّبدة الذّائبة وتكرّر ذلك مع كلّ ورقات القسم الأوّل من العجين أما الأخيرة فلا زبدة عليها بل تنثر عليها بعض السكّر والنّشا ثمّ تأخذ خليط ثلاثة كيلوغرامات اللّوز المرحي وربع كيلوغرام من الفارينة وربع كيلوغرام سكّر “محوّر” وتطرح حشو اللّوز على الورق الشفاف في الطّبق بلطف وهي الحريصة على أن يكون معتدلا فتُسوّيه في الطّبق ثمّ تتحسّسه بسويّ أناملها وإن أدركت هواءً منحصرًا بين طيّات ورق العجين حرّرته باستعمال الإبر الخشبية والضّغط برفق على مسحوق اللّوز الأبيض لترشّ المسحوق بماء العطرشاء دون إكثار ثمّ تنثر بعض السكّر الذي سيسهم في شدّ طبقات العجين العلوية التي ستمطّطها يداها الأميرية الصَّنَاع وتدهن بينها بمذوّب الزّبدة باستثناء الطّبقة الأخيرة وهي تعالج تجاويف الهواء بالإبرة الخشبية . وبعدئذ تترك الصّينية ثلاث ساعات لتهدأ وتتماسك .ثمّ تأخذ في تسطير معيّناتها بسكّين حادّ في صنعة لا يجاريها فيها أحد ثمّ تهمّ بما بقي من مذوّب الزّبدة تدهن به معيّنات البقلاوة قبل أن يمرّرها الخادم إلى الفرن حتى تنشأ خدودها في الاحمرار فيخرجها من الفرن وقد فاح منها عبق آسر لتسقيها الأميرة بالعسل الذي أعدّته وتعيدها لبرهة إلى الفرن وتُخرج منه لمّاعة وقد اشتدّت جلبة الخدم قريبا متشمّمين فتقتطع لهم الجليلة قسما يساوي عددهم من قطع البقلاوة فتُحرق لذّتها ألسنة من لم يطق صبرًا على شهوته….