مقالات

عين سلطان القرية العَزْلاَءَ، رائعةِ الجمالِ، مَوْئِلِ الغابِ والزّانِ

كتب سَعيد الشعّابي من تونس

كلما أكملت الأرضُ دورتَها وأطلّتْ بِيَ الأيّامُ على فصل الصّيف وَلفَحَنِي الهَجِيرُ، عادتْ بِيَ الذاكرةُ القَهْقَرَى إلى مَهد الخَطْوةِ الأولى، إلى عين سلطان تلك القرية العَزْلاَءَ، رائعةِ الجمالِ، مَوْئِلِ الغابِ والزّانِ والسِّنْدِيَانِ والعيُونِ العذْبة المُنتشرة في أرْجائِها، يُطِلُّ عليك مَاؤُهَا من جوْف الأرض عذْبًا زٌلاًلاً تُنعِشُك برودتُه وتُغنِيك عن مُثلّجاتِهم وما صَنَعُوا من آلاتِ تبريدٍ. كُنّا نُقيمُ طَرْفَ السّهْل الفسيحِ، نُتَاخِمُ الغَابَةََ حيثُ الفلِّينُ الجميلُ، ونُشرِفُ على الانْبِساطِ الشّاسع الذي تعلُوه هَضْبَةٌ فِي أسفَلِهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ماؤُها بارِدٌ صَيْفًا ودَافِئٌ شِتاءً. لَطَالَمَا سَحَرَتْنِي هذه العينُ، فَمَعِينُها لا ينضُب وإن شَحَّتِ السماءُ، يَفْتَرُّ فَاهَا عنْ حَجَرٍ يتَسلّلُ إلى داخِلها مُنْبَسِطًا كَاللّسانِ. قِيلَ لِي في الصِّغِرِ إنّ أقْوامًا من الزّمن الغابر فعلوا ذلك. وعند الكِبَرِ أدْرَكْتُ أنّ المكانَ أثرِيٌّ منسِيٌّ فُعِلَ بِهِ فِعْلَ ما يفعلُ الجاهل بنفسه، وتلك مسألةٌ أخرى غير أنني لا أملك إلا أن أذكُرَ أمْرَ ما كُنّا نُسمِّيه ” القصور ” وهي مجموعةٌ من الكُتَلِ الصّخريّةِ الضخمةِ التي قُدَّتْ على هَيْأَةِ مُكَعّباتِ متتابعة في اصْطِفَافٍ غرِيب يتوسّطُ السّهل. أدْرَكْتُ أيضًا عند الكِبَرِ أنّ هذه المنحوتاتِ أثريَّةٌ أُقِيمَتْ في زمانها لأمرٍ ما. ولمّا عَلِمتُ بِأمِرِ الإتْلافِ الذي أصابها هِيَ الأُخْرى، ازْدَدْتُ يقينًا بأنّ الجاهِل فِعلًا يفعل ما يفعل عدوّه به وربما أكثر. وأيْقنتُ أَسِفًا أنّ قرْيتِي التِي هَجَرْتُ مُكْرَهًا عَزْلاءُ منسيّة … بيْن العيْنِ ومنزِلنا مسافةٌ صغيرة جدُّا تتوسَّطُهَا سِنْدِيَانَة وارفة ٌ أُسَمِّيها الآنَ فِرْنَانةُ أُمِّي. فأُمِّي التِي كنتُ أَصْغَرَ أبنائِها كانت تتفيََاُ ظِلَّهَا للمَقِيلِ وكنتُ أرافِقُها في ذلك صَاغِرًا لأنني لا ألْبَثُ حتّى أتحيّنَ منها إغفاءة لأَِعْدُوَ بَعِيدًا لذلك كانت رحِمها الله تُذكّرني في نوْمِها بِنومِ المُهاجِر كما قال محمود درويش، “فَعيْنٌ تَنَامُ لِتَصْحُوَ عَيْنٌ” وذلك لتمنَعنِي من اللعب تحت أشعّةِ الشمس الحارقة. ! المَشْهدُ كان من حوْلِنا خُرَافِيَّ الحُسْنِ يخْضرُّ فيه السّهلُ ربيعاً ويَتَزَيَّى بِشتَّى ألوان الزهورِ حتّى لكأنّه بِساطٌ مخمليٌّ أتْقنته يدٌ ماهرةٌ. ويصفرُّ صيْفًا بُعَيْدَ الحصادِ لِيَفْسَحَ للماءِ المتدفّقِ من العيْنِ أن يرسُمَ سَبِيلًا مُتعرِّجًا تُرَافِقُهُ خُضرَةُ الأعْشَابِ التِي تشْرَبُ سَيْلَ ذاكَ المَعِينِ. ومن بَدَائعِ المكانِ أنك ترى قمّةَ جبل الغُرَّة وقد انتصبت شامخةً تُنَازِعُ السَّحَابَ رِفْعَتَهُ. وكم فَتَتَنِي ذلك الارتفاعُ رغم بُعدهِ عَنِّي. ذكَّرَنِي عند الكِبَرِ بافْتِتانِ ميخائيل نُعيْمة، نَاسِكِ الشُّخْرُوب بقِمّةِ جبلِ صِنِّينَ وصِنِّينُ هذا هو أحد جبال لبنانَ وقمته هي ثاني أعلى قِمّة هناك تمامًا مثل حالِ قمّةِ جبل الغُرّة التي تَرِدُ فِي المرتبة الثانيةِ من حيْثُ الاِرْتِفَاعُ بعد الشعانبي عندنا. أما الشُّخروبُ فهو المكان الذي الذي كان يأوِي إليه نُعَيْمَةُ للكتابةِ وقد أثْنَى على جمال الطبيعَةِ فيه كثيرًا.

كذلك كان مَهْدُ الخَطْوَةِ الأُولَى، عالَما حالِمًا، وبدائعَ استقرّتْ بالذّاكرةِ وأقسمتْ أن لا تُفارِقَهَا!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى