مقالات

حيوان “النوبة” الاليف

كتب : ياسين محمد 

غرب سهيل .. مزار السكينة على نهر النيل .. بيوت النوبيون المفتوحة لتربية التماسيح واستقبال الضيوف ..

يلتقط ممدوح حسن سلة بها ما يقرب من أربعة كيلو جرامات من الأسماك ليستعد لإطعام أنثي تمساح تسكن فناء منزله منذ 19 عاما في قرية غرب سهيل أكثر قري أسوان في مصر تمسكا بعادات النوبة.

تربية التماسيح في بيوت النوبيون عادة قديمة ولكنها تحولت إلي وسيلة جذب للسائحين الأجانب والمصريين الراغبين في مغامرة إطعام أحد أكبر المفترسات و قضاء أياما في سكينة على أرض بكر على ضفة نهر النيل.

في غرب سهيل يتوفر للزائر التجول في القرية على ظهر الجمال والنقش بالحناء على الجسم وإطعام التماسيح التي تربي في البيوت وتناول وجبات نوبية وشراء منتجات يدوية و مشغولات الخوص المميزة والخرز و القبعات التراثية والأزياء الشعبية مثل “الجرجار” المخصص للنساء وهو جلباب أسود من القماش الخفيف مفرغ يتم ارتدائه فوق جلباب ملون.

ممدوح هو نجل أحد أقدم مربي التماسيح في غرب سهيل ويعيش في منزله ثلاثة تماسيح أصغرها عمره أقل من عامان، وأكبرهم يقترب من عمر العشرين.

لممدوح شعر أسود قصير مجهد يرتدي جلباب فضفاض يشتهر به النوبيون في جنوب مصر، ويسكن منزلا من طابق واحد مثل بقية سكان القرية يتوسطه ساحة رملية واسعة بها مقاعد لجلوس الضيوف وثلاث احواض اسمنتية يغطيها سياج من الحديد يسكنها التماسيح .

يقول ممدوح، ” قريتنا معروفة منذ زمن بالسياحة ، والأجانب ينبهرون من كيفية تعايشنا مع التماسيح المعروفة بالشراسة ، ولكنه أسلوب التربية وتدريب التمساح من صغره على التعامل مع البشر، وأيضا التمساح لا نعتبره دخيلا علي بيوت النوبيون لأننا اعتدنا أن نرا يرعي امام بيوتنا القديمة قبل بناء السد العالي.

ونقل عشرات الآلاف من سكان القري النوبية على بحيرة ناصر سكنهم في الستينيات من القرن الماضي إلي قري كوم أمبو وأسوان بعد غرق قراهم بعد بدء عمل السد العالي وارتفاع منسوب المياه ليغطي المنازل.

ولكن قرية سهيل بنيت مع سد أسوان عام 1902 على تل مرتفع عن شاطئ النيل بنحو ١٠ أمتار، ليكون الصعود من الشاطئ إلى الأرض عبر سلالم صخرية حفرت فى تكوين التل الطينى، وبأعلى التل تختلط المنازل بمحال بيع الهدايا التذكارية، حظيت غرب سهيل بشهرة إضافية للمصريين عندما صور بها فيلمي ” مافيا” و” أنت عمري” لتغير الصورة النمطية للمصرين عن سكان النوبة بأنهم أشبه بالشخصية الكارتونية ” بكار”.

ويضيف ممدوح ” تربية التماسيح أصبحت أكبر وسائل جذب السائحين للقرية بعد نقص أعداد السائحين في مصر، ولكن تبقي مدينة أسوان والنوبة خارج التحذيرات الأمنية، ولكننا بالتأكيد تأثرنا بضعف السياحة ولم نعد نري السياح بكثافة مثل السابق، وأغلب الزوار من المصريين والنوبيين الذين يزورون قراهم في اوقات إجازات الأعياد”.

تقع غرب سهيل في أقصي جنوب مصر ويسكنها ما يقرب من 5آلاف نسمة، يصل إليها السائحين من مدينة أسوان عن طريق قوارب خشبية مزودة بمحرك إلي أعلي مجري نهر النيل في رحلة تستمر لمدة ساعة على الأقل بحسب سرعة تيار المياه، وهي نفس الوسيلة التى يستخدمها أطفال القرية وشبابها للوصول لمدارسهم بالمدينة، أو عن طريق صغير متفرع من سد أسوان.

غرب سهيل قرية مدينة سياحية مثالية لراغبي الهدوء والسكينة، بها فندقان يوفران أكبر قدر من البساطة والأجواء النوبية القديمة، بالإضافة إلي سكان يسمحون للضيوف بأن يقضوا ليلة أو ليلتين في منازلهم بمقابل بسيط، وهو ما يشتهر به أهل النوبة بكرم الضيافة وحسن الخلق.

يقول ممدوح ” نحن نفتح بيوتنا للزوار يقضون وقتا معنا يتعرفوا على عاداتنا ومنهم من يتجرأ لحمل تمساح والتصوير معه وإطعامه إن أمكن، ولا نطلب من أحد دفع أي شيء سوي ما يجود به فهم في النهاية ضيوف بمنازلنا.

يهتم النوبيون بالزخارف التي تزين جدران المنازل والألوان الجذابة تماسيح محنطة أعلي الأبواب لاعتقاد قديم بأنها تطرد الشر ، وهو موروث قديم من زمن الفراعنة الذين أقاموا معابد لإله من مجسم لتمساح يسمي ” سوبك”.

ظلت تماسيح النيل حيوانات أليفة ترعي في الفناء الخلفي لبيوت النوبيون علي ضفاف بحيرة ناصر جنوبي مصر وحتي وادي حلفا شمالي والسودان ، ويلجأ القرويون لصيادين محترفين لقتل تماسيح تهاجم القري ،ولكن في قري أخري ترعي مثل حيوانات الأليفة في باحات المنازل، وإن كان صيد التماسيح يظل مجرما قانونيا . مع نهايات الشتاء وبدايات فصل الربيع من كل عام ينخفض منسوب النيل وتظهر جزر طينية في الماء تخرج إليها التماسيح للراحة وبناء اعشاش للبيض، ويخرج الرجال للصيد، وينقلون بيض التماسيح للعناية به وتدريب الصغار على التعامل مع البشر كحيوانات أليفة .

و سيتندر النوبيون في شمال السودان بذكري صيادان كونا فريقا ثنائيا لصيد تماسيح النيل التي تهاجم القري، برصاصة واحدة ويد عارية.

فيحكي محمد فوزي قصة محجوب علي بك ومحمد عثمان خليفة المشهوران بصيد التماسيح فكان الثاني قناصا بارعا، بينما كان الأول يمتاز بخفة الحركة وقوة العضلات ويشتهر بدوره في الانقضاض علي التمساح فور سماع صوت الطلقة والامساك به وتكبيله قبل أن يتوغل إلي النهر .

في الجزء السوداني من بلاد النوبة كان يعيش محمد عثمان خليفة واشتهر بقوة جسده وخفة الحركة واستعان به اهل جزيرة من جزر ككي لتخليصهم من شر تمساح شرس هاجم منازلهم اكثر من مرة، وكان واثقا تماما في كل مرة بأن طلقات زميله لا تطيش وهكذا كونا ثنائيا بارعا في صيد التماسيح وتخليص الاهالي من شر التماسيح وفي مرة من المرات طهر تمساح مزعج في جزيرة من جزائر ككي واستدعي اهل الجزيرة القناص محمد عثمان ومعاونه محجوب فجاءا توا لصيد التمساح وبعد ان اطلق القناص طلقته انقض محجوب علي التمساح وقفز في النيل خلف وظل غاطسا لفترة طويلة وهو يعارك التمساح حتي تعكرت مياه النيل خرج محجوب مكبلا التمساح وجسده ملئ بخدشات المخالب وكدمات ضربات ذيله وعندما لمح القناص التمساح طلب من معاونه ان يحول وجهة مرقد التمساح لكي يري اثر الطلقة، ليجد أنه سليما، واضطر محجوب للغوص مجددا وإخراج التمساح المصاب

وردة سيدة عجوز بلغت من العمر 60 عاما او أكثر، تعجبت من سؤال عن كيف تأمنون للتماسيح في بيوتكم، وردت بهدوء ” نعيش معها منذ زمن وكنا نراها تستلقي بهدوء أمام بيوتنا على ضفة النيل قبل التهجير، التماسيح الكبيرة التى تهاجم القري يصطادها الرجال .

تحكي وردة عن جار لها يربي تمساح في ساحة منزله عاد من عمله عصر يوم ولم يجد التمساح في حوضه وبحث عنه في الغرف ووجده نائم بهدوء أسفل سرير نجلتيه المستلقيتان فوقه، وسحبه من الذيل إلي حوضه وأضاف ماء للحوض وقليل من السمك.

وتضيف “يبدو أن التمساح ضاق بالحوض وأراد السكون في رطوبة الغرفة”.

تشتهر البيوت النوبية بالقباب والساحات والنوافذ الواسعة لتوفير الهواء والرطوبة لمقاومة حرارة الجو في مدينة قريبة من مدار السرطان وتتعرض لموجات مدارية حارة طوال العام .

في غرب سهيل عشر منازل على الأقل تفتني التماسيح وتسمح للزوار بمداعبتها، ولكن ممدوح حسن ، يحذر من اللعب مع تمساح غاضب دائما لم يعتاد التعامل مع الأغراب رغم أن عمره ثماني أعوام لذلك يخصص عصا طويلة لإطعامه.

لا توجد سيارات كثيرة داخل القرية، ويستطيع التجول فيها سيرا على الأقدام، ولكن الوسيلة المثلي للتمتع بأكبر مساحة منها على ظهر جمل، يستطيع الدوران حول المنازل وزيارة كل معالهما خلال ساعتين فقط.

بجانب اعتماد سكان غرب سهيل علي السياحة يعيش جزء بسيط منهم على صيد الأسماك من نهر النيل والتجول بالقوارب الصغيرة لنشر الشباك وجمع الأسماك، وفي الطريق للقرية تجد كثير منهم يحيون القوارب التى تقل السائحين وقد يرافقوهم حتى شاطئ القرية حيث ينتظرهم السيدات لعرض بضائعهن البسيطة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى