مقالات

الكبّارة قرية جبلية من حلوى اللّوز ..”وتهيم العيون بتونس قراها ومدائنها” | مجلة السياحة العربية

كتب : عمار التيمومي _ الكبارة

…تنتشر مُربّعات حقول اللّوز في مختلف أجنحة البلدة حتى أن الأطفال يعفّون عن سرقته في ما يسرقون من مشمش وخوخ وتين وعوينة و بطّيخ والآباء لا يمشطون عند ظل الشّجرات كما يفعلون مع بقية الأشجار المثمرة، حتى يتمكّنوا من قِيافة أقدام من سوّلت لهم أنفسهم قطف الثّمار في غير معادها . وباعتبار أنّ الفاكهة ببلدتي ما كانت لتباع ولا لتشترى . فأبناء الكبّارة كانوا يعتقدون أنّ الخيرات لا تعطى بثمن. وإنّما تُوهب يوم جنيها لإسعاد الأجوار، ومن لا ثمر بحقله أو لا حقل له أصلا.

… وحثيثا حثيثا تغيّرت الطّباع فأضحيتَ ترى الثّمر على قارعة الطريق -ولا قارعة- ينشر للبيع والأجوار ما تذوّقوا وإن حبّة، إذ أصابت عدوى الخوف من الإفتقار وطاعون الجشع أغلب من سكن أرض تونس إلاّ من رحم ربّي وهم قليل. وأمسيت تشهد عربات الوُسطاء تتسابق للفوز بالثّمر وبعضهم ما غادر الحقل بعد. ينضُج اللوز في مفتتح أيام الصيف فتنكشف من تحت القشر الخارجي قشور أخرى ترابية اللون وقد تتسابق القشور في التساقط أرضا ويلحق بها بعض من الثمر…

تتفرّق جحافل الجناة في المستطيلات اللوزية وأوراق اللوز خضراء ستذبلها شمس أوسّو لتعصف بها ريح أيلول الشّرسة وقد اصفرّت، وحان مماتها فتُهيجها في كلّ الأركان والزوايا. وتظل هذه الورقات الطعم الأثير عند مختلف الدواب خضراء كانت أم صفراء. فهي ليّنة هشّة تطلبها ذوات الأربع سواء كانت في أغصانها يانعة مخضوضلة أو طريحة أرضا وقد علقت بالهشيم الشائب..

تساهم كلّ الأعمار القادرة على الحركة في جني اللوز. إذ هو عملية يسيرة لا تتطلب أكثر من جهد بلوغ الغصن وليّ أعناق اللوزات ليا خفيفا يفصلها عن أمهاتها. تُجمع محاصيل الصبيحة الساخنة في أكياس تحملها الأتن أو ظهور النساء إلى البيوت الظليلة حيث يتحلق الشيوخ والصبية والنساء حول صناديق وقصاع وأكياس يفصلون القشرة الورقية عن القشرة العظمية. ويرمون بها في آنية. فتسمع لها قرقعات تزهو لها أسارير الفلاحين. وتستبشر السحنات التي ترشف الشاي الكوب بعد الآخر وحين تخفّ وطأة عشبات الشاي ويؤول سوادها إلى حمرة خفيفة، يضحي مسكوب الشاي صالحا للجميع وقد ملئت أكوابه ثمرات لوز مقشورة يانعة. فيصب الكبار محتوى الكؤوس في أفواههم بيسر وصنعة في حين يتعثر الصبية. فتظلّ اللوزات بِقيعان الكؤوس عالقةً، ممّا يضطرّهم إلى الإدلاء بسبّاباتهم ،لاستخراجها وإلحاقها بسابقاتها. فتهرش هرشا بين أضراس فتية حادة تقطعها اربا إربا.وتمضغها. وتعتصر منها حليب اللّوز قطني البياض. وتظلّ الأيادي شديدة الحركة رغم أنّ ألسِنة الحديث لا تهدأ. فتتداول أخبار الاسترخاء والدّعة والنّوادر. وقد لا تخلو بعض المجالس من غناء وزغاريد فأهل الفلاحة يُولمون كلّما أثمرت شجراتهم أو درّت مواشيهم أو أنبتت أرضهم أو أمطرت سماؤهم. إذ هم أعلق النّاس بالأمل يديرون عليه متابعة أيّامهم صيفا وشتاء وخريفا وربيعا. فالفصول عندهم مليحة بقدر منتوجها وإن أجدب الأديم من حولهم فلهم في مواشيهم العجفاء كل ما بقي من رجاء.

يسعد ربّ البيت كلما امتلأ إناء بثمر اللوز المقشور وتعلو له نحنحة لا تفهم مغزاها إلا زوجته. فتهبّ من من جلستها مسوّية ملاءتها تأخذ الإناء لتصبّه في مفارش بسطت بوجه الشمس لتجفف الحبوب يومين تباعا بشمس لاذعة الأشعة.

وينتهي عمل اليوم بانتهاء قشر ما جنت أيديهم من لوز . فتتفرّق المجالس وقد أعيتها سخونة الطقس وحرارة الكدّ. فتتطلب الأجسام ماء تُزيل به آثار هباءات قشر اللوز الحارقة. وتحرص كنّة بلقاسم بوسدرة على جمع القشور كل القشور لتعرضها للشمس هي أيضا لتصير علفا للمواشي تقرمشها كما يهرس الصبية اللوز. يذكر الصبي أن الخالة خيرة كانت امرأة فارعة حسناء بعيدة مهوى القرط الذهبيّ. وأغلى ما في البيت حلق السيدة يبذل للرّهن مقابل أموال قليلة تفكّ ضائقة الأسرة في أزمات. وتمكّن من إسناد الأبناء حتى يواصلوا تدرّجهم في مراتبهم العلمية. فإن هم تخرّجوا وعملوا دفعوا مقابل الرهن ليزفوا إلى الأم فرحها المتجدّد بحلقي أذنيها وهكذا دواليك…

كان الصّبي ولوعا بمجالس النساء أكثر من ولعه بالاختلاف إلى مجالس الرجال القساة الذين دأبوا على انتهار الأحداث إن هم اقتربوا من مجالات الإصاخة إلى حكاياهم غير البريئة. أما النسوة فقد كن يتبسّطن في الحديث ولا يردعن ولا يرتدعن. وكانت بُشرى بنت الشيخ امرأة جريئة لا حدود لنوادرها وان شحّت ذاكرتها، نسجت الضّحكات بما تعوّدته من فصيح اللّسان القادر على الحبكة. وعيناها ماكرتان في غير وجل يساعدها في نظم الهزل زوجها اللبيب. وتتعاقب أيام البلدة خفيفة سلسبيلا يوغل أهلها في الفرح إن هم فرحوا. ويحزنون حزن النّاب لفراق فصالها إن غادرهم عزيز. ويسعى بين الجميع فتى دقيق السّمرة أجعد الشّعر. يجرّ رجلا ويتوكّأ عليها بملء يده. ويظلّ الفتى محمد ولد جمعة بوسدرة نشيطا خفيف الحركة. وحين يضحي كاتبا للعمدة الحبيب بالدّهماني سيقتني عجلةً تساعده على طيّ جميع المسافات وفمه بسّام وهو ودود خدومٌ. يحبّ الجميعَ. والجميعُ يحبّه إلى ان يتزوّج في عرس لم يغب عنه أحد.ثمّ يموت فتبكيه كلّ عين ألفته. لقد انطفأ بين الوجود فتى ما انفكّت الثنايا تتحسّر لغيبته.

يقول الصّبي” وإن أنس لا أنسى مذاق حلوى اللوز من يدي هذه المرأة عسلية البسمات -يعني بُشرى- فقد اعتادت في مجالس صابة اللوز أن تأخذ في آخر كل قيلولة حفنتي لوز تضعهما بمقلاة على نار هادئة وتصب في المقلاة نصف رطل سكرًا. ولا تكف عن تحريك اللوز بملعقة عود حتى يذوب السكر. فيؤول الى سائل يحمرّ حثيثا حثيثا ويسيل ليكسوَ حبات اللوز. فتقلب حينها المقلاة على رخامة المطبخ. وتترك الحلوى حتى تبرد لتصير قالبا واحدا تكسره بشرى بيدها. وتوزّعه بين أيادي الأطفال الراجفة فيبادرون إلى قضم الحلوى ليكفكفوا لعابا كاد يسيل. ولا يفارق البِشر وجه بُشرى. ولا تنقضي عنها الضّحكات…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى