مقالات

جامع أبو دلف بالعراق | مجلة السياحة العربية ..#السياحة_العربية

بقلم: م/ طارق بدراوى 

جامع أبو دلف من مساجد العراق التراثية الأثرية القديمة ويقع هذا الجامع شمال مدينة سامراء بمسافة 15 كيلو متر في محافظة صلاح الدين ولقد شيده الخليفة العباسي المتوكل على الله في عام 246هجرية الموافق عام 859م وقد ذكر المؤرخ البلاذري إن الخليفة العباسي المتوكل على الله بنى مدينة سماها المتوكلية وبنى فيها مسجدا سمي فيما بعد بمسجد أبو دلف في شرق مدينة سامراء وقد تم البدء في بناء هذه المدينة عام 245 هجرية الموافق عام 858م وإستكمل البناء والسكن بها في العام التالي ولقد تم وضع إسم تلك المدينة بالنقود والدراهم في عام 247 هجرية الموافق عام 860م وتعتبر تلك الدراهم المؤرخة بعام 247 هجرية من النقود الرائعة والجميلة والمميزة حقا والمتوكل على الله الذي تولى الخلافة في شهر ذي الحجة عام 232 هجرية الموافق شهر يوليو عام 847م هو آخر خلفاء العصر العباسي الأول أو ما يسمى بعصر القوة والذي بدأ بحكم أبو العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية عام 132 هجرية الموافق عام 750م وإنتهى بحكم المتوكل على الله قبل أن يبدأ بقتله عصر سيطرة العسكر الأتراك أو ما يسمى بالعصر العباسي الثاني فلقد وقع المتوكل في نفس غلطة جده هارون الرشيد عندما عقد الولاية لثلاثة من أبنائه الأمين فالمأمون فالمؤتمن وأدى ذلك لإقتتال شديد راح ضحيته الكثير في مقدمتهم الأمين نفسه حيث قام المتوكل بعقد الولاية لثلاثة من أبنائه أيضا هم المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد.

thumbnail (1)

ولم تكن قلوب الأتراك مطمئنة إلى المتوكل فعملوا على إستغلال كره المنتصر لأبيه المتوكل بسبب تفضيل المتوكل لولده المعتز عليه ثم وقعت حادثة أشعلت نار الحقد في قلب المنتصر ضد أبيه عندما مرض المتوكل يوما فأمر المعتز أن يخطب الجمعة مكانه فأجاد فيها وعظم في أعين الناس فخاف المنتصر ضياع الخلافة منه ومنحها لأخيه فتآمر مع بعض قادة الأتراك على قتل أبيه المتوكل وبالفعل في ليلة الأربعاء 4 من شهر شوال عام 247هجرية الموافق يوم 12 من شهر ديسمبر عام 861م دخل المتآمرون عليه فقتلوه بسيوفهم وقتلوا معه صديقه الفتح بن خاقان وأشاعوا أن الفتح هو الذي قتله وأنهم قتلوه لفعلته الشنعاء وولوا المنتصر مكانه وكانت هذه الحادثة إيذانا ببدء سلسلة طويلة من قتل وعزل الخلفاء بعد أن ضاعت كرامتهم على يد الأتراك يوم أن إستقدمهم المعتصم ليدخلوا بلاد المسلمين ويذكر للمتوكل إكرامه للإمام أحمد بن حنبل الذي ضرب وأوذى وسجن خلال فتنة خلق القرآن قبل توليه الخلافة فقام بإستدعائه من بغداد إلى سامراء وأمر له بجائزة سنية لكنه إعتذر عن قبولها فخلع عليه خلعة عظيمة من ملابسه فإستحيا الإمام أحمد فلبسها إرضاءا للخليفة ثم نزعها بعد ذلك كما كان من أعماله إعادة بناء مقياس النيل الحالي الموجود بجزيرة الروضة في مصر والذى كان أول بناء له في عهد عمرو بن العاص أول والي إسلامي علي مصر بعد فتحها .

thumbnail (2)

وقد بدأ المتوكل على الله في بناء مدينة المتوكلية في عام 245 هجرية كما ذكرنا وسماها بإسمه وهي من أفخم أعماله وقد أشرف على تخطيطها بنفسه حيث حلم بمدينة ذات شوارع عريضة مستقيمة وقصور فخمة جليلة وحدائق غناء ومتنزهات جميلة ومبان واسعة ودواوين للدولة وإستولت عليه رغبة ملحة في أن تنسب إليه المدينة ليخلد بها إسمه فإختار مكانها في موضع يقع شمال مدينة سامراء بينها وبين تكريت على بعد عشرين كيلو مترا من سامراء الحالية في العراق وقدر المهندسون الذين إستعان بهم المتوكل النفقات اللازمة لبناء هذه المدينة بألف ألف وخمسمائة ألف دينار أى 1.5 مليون دينار ومع جسامة المبلغ فقد رضي المتوكل على الله وطاب نفساً وأمر بمباشرة بناء المدينة فورا وكانت أولي أعمال تأسيس المدينة وبنائها البدء في حفر نهر يأخذ ماءه من نهر دجلة بالقرب من بلدة تكريت حيث كان لا بد من توفير المياه اللازمة لأعمال البناء والمعيشة بعد ذلك وبحيث يحملها هذا النهر الصناعي إلى موقع المدينة الجديدة وذلك على شاكلة قناة مدينة سامراء التي سبق وان أنشئت لتوصيل المياه إليها ولا تزال آثار هذا النهر الصناعي مائلة يمكن مشاهدتها في عدة مواقع داخل أطلال مدينة المتوكلية.

thumbnail (7)

وقام المهندسون بتحديد مواضع قصور الخلافة ودار الخلافة والدواوين الرسمية والمناطق السكنية وقطائع القواد والجند ووضعوا التفصيلات اللازمة لعمرانها وجيء بالعمال والبنائين وقام العمل على قدم وساق لإنجاز المدينة في أقصر وقت ممكن وجعلوا عرضه مائتي ذراع وحفروا على جانبيه جدولين يجري فيهما الماء من النهر الكبير الذي بوشر بحفره وأقطع الخليفة ولاة عهده الثلاثة وسائر أولاده وقواده وكتابه وجنده وسائر الناس كافة على يمين الشارع الأعظم وعن يساره وجعل الأسواق الكبيرة في موضع منعزل كما جعل في كل منطقة من مناطق المدينة الجديدة سوقا خاصا بها وقد تميز الشارع الأعظم بطوله وإستقامته ولا سيما بعد أن إمتد إلى آخر مدينة المتوكلية وضوعف عرضه وبلغ طوله في داخل مدينة المتوكلية حوالي 12.5 كيلو متر وكان تصميم مدينة المتوكلية يشمل تقسيمها الى ثلاثة اقسام أولها القسم الجنوبي منها ويعرف بإسم دور عربايا أو الدور العرباني وقد خصص لسكنى عموم الناس والقسم الثاني وهو القسم الوسطي من المدينة فقد خصص لقطائع القواد وأصحابهم فكان لكل قائد قصر خاص به يطل على نهر دجلة وقد شيد في شمالي هذا القسم جامع المدينة المعروف حاليا بإسم جامع أبي دلف والمعروف بمئذنته الملوية وينتهي هذا القسم من المدينة شمالي الجامع بقليل حيث يبدأ القسم الثالث منها وهو القسم الشمالي الذي خصص لدار الخلافة ودواوين الدولة وقصور المتوكل على الله ويفصله عن بقية أجزاء المدينة سور يمتد بين ضفة النهر الصناعي الذى تم حفره ونهر دجلة وله ثلاثة أبواب عظام جليلة يدخل منها الفارس برمحه بحيث كانت هذه المنطقة معزولة تماماً عن المدينة وهذا القسم الخاص بدار الخلافة والدواوين كانت فيه مساحات واسعة نظمت فيها حدائق وبساتين غناء يخترقها شارعان يؤديان إلى دار الخلافة ودواوين الدولة .             

thumbnail (6)                                                                                              

وفي أثناء بناء المدينة كان المتوكل على الله يتفقد بنفسه سير العمل في بنائها وفي حفر النهر فمن رآه من العاملين قد جد في البناء أجازه وأعطاه فجد الناس ونشطوا في العمل ثم إرتفع البنيان في خلال مدة سنة واحدة تقريبا إذ بنيت القصور وشيدت الدور كما تم تشييد  قصر المعز بن المتوكل على الله حتي لم يبق مكان في المدينة لا عمارة فيه وإنتقل المتوكل على الله إلى قصور هذه المدينة في أول يوم من شهر المحرم عام 247 هجرية الموافق يوم 18 من شهر مارس عام 861م والتي كان منها قصر الشاه والعروس وقصر المختار والبديع وقصر الصبيح والمليح وقصر البرح وقصر البهو وقصر شيراز وقصر الغريب وقصر بستان الإيتاخية وقصر القلائد وقصر الوحيد والتل كما أمر بأن تنقل دواوين الدولة من سامراء إلى المتوكلية فنقل ديوان الخراج وديوان الضياع وديوان الزمام وديوان الجند والشاكرية وديوان الموالي والعلماء وديوان البريد وجميع الدواوين الأخرى وتقع أطلال هذه المدينة على ضفاف نهر دجلة على بعد 10 كيلو متر من الحدود الشمالية لمدينة سامراء ولا تزال آثار السور العظيم الذي كان يحيط بدار الخلافة والدواوين وقصور الخليفة والذي يربو طوله على 4.5 كيلو متر ماثلا للعيان . 

thumbnail (5)

وقد تم بناء جامع مدينة المتوكلية والمعروف اليوم بإسم جامع أبي دلف على مساحة مستطيلة الشكل يتوسطها صحن مكشوف تحيط به أروقة أكبرها رواق القبلة الذى يتكون من ثلاث بلاطات وبحيث توازى الدعائم التى تحمل السقف جدار القبلة وقد إستبدلت الأعمدة الحجرية التى إستخدمت في العصر العباسي بدعامات تحمل السقف مشيدة بالآجر ويحيط بالجامعِ من الخارج جدار من الطوب الآجر إرتفاعه 10 أمتار وتدعمه أبراج نصف دائرية بارزة عن الجدارن بحوالى 2 متر عددها 40 برجا وكان الجزء المسقف من الجامع يرتكز على دعائم مثمنة الأضلاع متصلة بأعمدة من الرخام في الأركان كما يحتوى رواق القبلة على 24 صفًا من الدعائم تكون 25 بلاطة وأيضا يوجد بكل من الرواق الشرقى والرواق الغربى أربعة صفوف من الدعائم أما الجهة الشمالية فيوجد بها ثلاثة صفوف فقط وللجامع محراب يحيط به زوجان من الأعمدة الرخامية المنتهية بتيجان رومانية ويعد هذا المسجد من أكبر المساجد الإسلامية إذ تبلغ مساحته 46800 متر مربع حيث يبلغ طوله 260 متر وعرضه 180 متر وتقع مئذنته الحلزونية خارج السور من الناحية الشمالية في أولى الزيادات التى أضيفت للمسجد في العهود التالية وتتميز هذه المئذنة بتصميم فريد لم يظهر من قبل في عمارة المساجد الإسلامية إلا في جامع سامراء الذى بناه الخليفة المتوكل أيضا مابين عام 234 هجرية الموافق عام 848م وعام 237 هجرية الموافق عام 851م أى قبل سنوات قليلة من بناء جامع المتوكلية وقد أقيمت على قاعدة مربعة إرتفاعها ثلاثة أمتار ويرتفع فوق هذه القاعدة برج حلزونى درجاته من الخارج وتذكرنا هذه المئذنة الحلزونية بشكل الأبراج البابلية المدرجة كالزقورة التى وجدت في آثار العراق وجمعها الزقّورات وتقع معظمها في بلاد ما بين النهرين وهي عبارة عن معابد مدرجة كانت تبنى في سوريا والعراق ثم إيران ومن أشهر الزقورات عالميا زقورة أور في العراق قرب مدينة الناصرية بمحافظة ذي قار جنوبي العراق وزقورة عقرقوف قرب بغداد ويذكر انه توجد 28 زقورة في العراق كما يوجد في سوريا عدد منها هذا ويحمل بناء المئذنة بهذا الشكل فلسفة روحية إسلامية تحوي دلالات على تكاملية العمارة والفكر المعماري المسلم مع الدلالات الكونية المحيطة والإستجابة لها فهي تماثل الحركة في الطواف حول الكعبة بعكس إتجاه عقارب الساعة .                         

thumbnail (4)                     

وللأسف الشديد فقد تعرض جامع أبو دلف وجامع الملوية بسامراء والآثار العراقية الموجودة بمحافظة صلاح الدين بوجه عام لأضرار شديدة خاصة في السنين الأخيرة بداية من عام 2003م بسبب الغزو الأميريكي للعراق ثم بسبب تحول المنطقة إلي منطقة عمليات عسكرية بسبب وجود مسلحي تنظيم داعش بالمنطقة والآن بعد خروجهم من المنطقة فبسبب قلة الإعتمادات المالية المطلوبة لم يتم إستكمال ترميم وإعادة تأهيل هذه المنطقة الأثرية بشكل كامل ويأمل المسؤولون بمحافظة صلاح الدين أن توفر لهم وزارة الآثار العراقية الميزانية اللازمة لإعادة تعمير المنطقة وإعادتها إلي عهدها السابق أما عن تسمية الجامع بجامع أبي دلف فإنها أطلقت عليه في القرون المتأخرة لما يتمتع به صاحب هذا الإسم من الشهرة ولأنه كان من أهل مدينة سامراء وهو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل العجلي وهو أحد كبار رجال الدولة العباسية ومن قادتها في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد وأيضا في عهد كل من الخليفتين المأمون والمعتصم وكان أميرا للكرخ وهو أحد قسمي مدينة بغداد ويقع على الجانب الغربي لنهر دجلة ويوجد فيه العديد من المناطق الحيوية للعاصمة العراقية منها الكاظمية والصالحية وشارع حيفا والعامرية والشعلة وكان أيضا شاعرا وأديبا ومن العلماء بصناعة الغناء ولم يكن يكتف بقول الشعر بل كان أيضا يلحنه كما كان سيد قومه وأحد الأمراء الأجواد الشجعان وكان أيضا من قادة جيش الخليفة المأمون وقد توفي في بغداد عام 226 هجرية الموافق عام 841م .

thumbnail

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى