إن تَزُرْ القيروانَ تَرْكبْ بِساطَ الأحلام | مجلة السياحة العربية .. #السياحة_العربية

كتب :  عمار التيمومي

تقصد القيروان تركب ذهنك توصيات لست تدري مصدرها إلاّ أنّ محصّلتها أنّك تُقدِمُ على حدث جَلَلٍ كيف لا وأنت ستسلك مسالك الأقدمين وتجلس مجالسهم ويغشاك ما غشِيهم من هوى صبرةَ وهوائها .. مداخل قيروان اليوم عديدة ومسالكها بسيطة وبيوتها مُوطّأة والأصل في أهلها الكرم وصون الذّمم.. وتظلّ في سُرعةٍ من أمرك حتّى تقرب مداخل المدينة العتيقة وأبوابها الشّفيقة.. والعيون منك زائغة للحلم صائغة تبحث هنا وهنا عن أسرار الأوّلين وبدائع المترفين.. وهل من مكمن يُودعه المرؤ أسراره غير بيته والحال أنّ البيوت هناك عديدة وغرف بعضها كثيرة وجدرانها تتعسّر على العدّ وحيوات النّاس فيها استمرّت لمئات السّنين والحضارات المتعاقبة عديدة وثرية لاسيما تنوّع الأجناس والأديان والألوان والدّول دون نسيان أنّها كانت عاصمة لبني الأغلب ومن قبلهم كانت رابعة ثلاث (مكة والمدينة والقدس) وأقدم المدن التي أسّسها العرب المسلمون بالغرب لتكون منطلقًا لجيوشهم نحو باقي إفريقيا غربا وجنوبًا ونحو الأندلس… وقد حُبّر في تاريخ هذه المدينة الكثير والكثير ولم يغفل عن ذكرها كبار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة ونحوهم…

ظلّت هذه المدينة درّة مكنونةً وجوهرة مصونة يسكنها الكثيرون ويعبرها الأكثرون لكن لا يقع على بعض مفاتنها إلاّ المغرمون بقشر الصّدفات وإلاّ ظلّت غُلقة أمامك تشبه مدنا كثيرة ولا تبوح بشيء من خفاياها إلاّ لعشّاقها الصّبورين ومريديها الولهين.. فتظلّ تراودها عن نفسها وهي المتمنّعة بنت المحافظين المانعين نثروا فيها المساجد في كلّ عطفة ممرّ وما أكثر ممرّاتها ومنعطفاتها وعلى أبواب البيوت أقفالها…ما برحت لقرون مطلب التجّار والعلماء والمتعلّمين ومقصد السيّاح والمؤرّخين وقبلة الأحبّة والمريدين…

القيروان بكلّ هذا الزّخم الجمالي والتّكثيف التّاريخيّ والثّراء المعماريّ… مدينة كَتُوم لا تلين بيُسر فهي تُسكن حكاياها الجدران والكتب وصدور عشّاقها حَسْبُ، أمّا العابرون فلا يصيبون منها غير خدّ مُصعّر ووجه خجول أصفر لا يُذهب غُلّة المُشتاق وجوّاب الآفاق .. رقّادة كبناتها الأصيلات إن عشقنك أرخين الوشاح عن مقلات الآرام وفرشن لك سُجّادًا أفنين عُمرهنّ يرقمنه ويُنَمْنِمْنَه بأرواح شفّافة ومُهج رهّافة…

للقيروان ككلّ المدن العتيقة أسوار مَنيعة يقصر دونها كلّ غلاظ الحسّ سطحيّي الجسّ.. لا تنصت إلى هَسّها إلاّ الأفئدة العِشّيقة ولا ترى مَسَّها إلاّ العيون الشّهيدة.. فإن أنت رامتك المدينة الدرّة أركبتها بساطها السّحريّ لترحل بليالي التّاريخ المديد وتشهد كلّ ممتع مجيد .. تتفتّح لك منافذ البروز وتشرع بوجهك صناديق الكنوز فتجول في قصورها الحميمة وترتوي من ثرواتها العميمة ..وتظلّ كالمشتاق تطلب الترياق ولا تحدّ من رغبتك الآفاق..

فلروطة بئر تُعصب عين جَمَلها ليدور فتدلق الماء في الجرار جِرار وتتلقّفه الحلوق الظّمأى كما عسل صاغه نحل من نوّار .. ولأبي زمعة البلويّ مقام مشهود لا يكفّ عن زيارته إلاّ الموتى الرّقود فيه أنس الزائر وللأفراح فيه يطلق البارود… ولعقبة بصدر المدينة مقام جامع تنار صومعته بنور لامع وتحت قبابه الستّ يسجد كلّ تائب لله خانع.. وللقيروان أسواق تغصّ بالبضائع وبهيّ الودائع من زارها سعد ومن فارقها تبرّم وكمد .. شهيرة بالتوزري والحايك والزرابيّ ومقروضها الشّهيّ ونحاسها المفخرة والحليّ .. حمّاماتها بلا نظير ومآذنها أنس للسّمير وأسقفها قاهرة للسّعير…

كلّما زرت القيروان تكشّفت لي ثمار الأوان ومحاسن الزّمان ولن أغاليَ إن أنا رأيت بها جنان الرّحمان ولطائف الحرير والدّمقس وعقود المرجان.. القيروانَ القيروانَ فالطّائف بها كمن حاز قبول رضوان فهيّا إلى الجِنان…