مقالات

عينُ دراهمَ .. سيّدةُ الفصولِ

 تونس _  سعيد الشعابي

غيرُ مُهمٍّ أن تتخيّرَ فصْلَ الذّهابِ إليها فهي سيّدةُ الفصولِ وكلُّ الفصول تقود إليها فإن شِئْتَ زُرْهَا بِصَيْفٍ. وإنْ شِئْتَ اذْهَبْ خَرِيفًا. وأمّا إذا ما أردْتَ أن يُولَدَ بَيْنَ جَنْبَيْكَ شَاعِرٌ ويَكْبُرَ رَسّامٌ فارْحَلْ شِتَاءً حيثُ الثلوجُ تأتي مشتاقةً لِتَكْسُوَ قِممَها بياضًا ناصِعًا من الثلوج قد يصل سُمكه مترين (2م) في المواسم التي تشهد فيها المنطقة نزول كميات كبيرة من الثلج . وإنْ أنْتَ رُمتَ الدّلَالَ فَخِّلِّ اللِّقَاءَ يكُونُ ربيعًا، وثِقْ أنَّ تعرُّجَاتِ الطّرِيقِ نحْوَ الارْتِفَاعِ لنْ تَزِيدَكَ إلّا مُتْعَةً. ففِي كُلِّ مُنعرِجٍ يتغيّرُ المشهدُ وتتبدَّلُ تَفَاصِيلُ اللَّوْحَةِ… ها هُنا، أنْتَ كالنِّسرِ فوْقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ مثلما قال أبو القاسم الشابي، شاعِرُ الخضراءِ الذِي سحرتهُ هذه الرّبوعُ بجمالِ طبيعتهاَ الآسِرِ ذَاتَ نقاهةٍ قضّاها بِها بَعد أن أعْياه المرضُ، فكتب فيها قصيدته الشهيرةَ ” إرادةُ الحياةِ ” لمّا كان يختلي إلى الصخرة الشاهقة الشهيرة قرب عيْنٍ تُدعى عين تاشَة بفجّ الأطلال أحدِ أحواز المدينة. وتعتبر هذه العينُ إحْدَى أشهر عيون الجِهَةِ التي يبلغُ عددها حوالي عشرين عينًا جَاريةً لا ينضُبُ ماؤها وإنْ اختلفَ الفصلُ ونقُصَ هَطْلُ المطرِ وتسير درجةُ حرارة الماء فيها عكس الفصل فهي باردةٌ صيفاً ودافئة في فصل الشتاء.

66874551_2303446956589361_2343115963769028608_n

عين دراهم، هي إحدى أهمّ مدنِ الشمال الغربي التونسي الجميل. تقع على ارتفاعٍ يُناهز (800 م ) من سطح البحر وتبعد عن العاصمة تونس حوالي 200 كم. يمكن للسيارة أن تقطع هذه المسافة في أقلَّ من ثلاثِ ساعات بعد أن تكون قد مررتَ بمدينتيْ جندوبة وفرنانةَ. وفرنانةُ هذه مدينة أخرى جميل تُتاخم عين دراهم وهي أيضا قصة أخرى من قصص الجمال في هذه الربوع !.

وعن أصل تسمية عين دراهم، تقولُ الرواياتُ إنّ المكانَ استمدّ اسمه من اسم امرأةِ سكنت الدّيار قديمًا. وقِيل أيضا إنّ لفظَ الدراهم يعودُ إلى ثراء المنطقة بالمعادن التي رُوِيَ أنّ البعض قد شاهد فُتاتَ هذه المعادن يتلألأ في مياه الشِّعابِ المتدفّقة بعد الشتاء وفي فصل الربيع وهي تجرِفُ التُّربة الغنيّة بهذه المعادن. ومَهْمَا يكُنْ من أمرِ فإِنّكَ وأنت تقتربُ منها والسيّارةُ تسيرُ الهُويْنَى فإنه شيُنْعِشُكَ النّسيمُ العليل المنبعثُ من الظّلال الوارفة. وإذْ تُسرِعُ بِكَ السيّارةُ يَجْرِي من حَوْلِكَ الزّانُ والسنديانُ ويركُضُ خلفَك الشّجرُ حتّى إذا ما أخذتَ في الاقتراب منها تراءَتْ لك سُقوفُ المنازل القِرميدية فيها بُقَعًا حمراءَ تَعْتَلِي بَياضَ الجُدرانِ فيزيدك ذلك سِحْرًا على سِحْر… مِن الأعْلى المشهدُ ظَالِمُ الحُسنِ كما يقول الشاعر، بُقَعٌ حَمْراءُ مُتناثرةٌ وسط اخْضِرارِ مُهَيْمِنٍ على الأنْحَاءِ. تلك هي بناياتُ عين دراهم وتلك هي أسْقُفُها وأسقُف مُنْشآتها وفَنادِقها المنتشرة في الأنحاء التي يؤُمُّها السائحون شتاءً لِلَّهْوِ في الثلوج والتجوّل بين الأشجار الباسقة التي يلفّها الضباب بردائه البديع. وصيْفًا عند تصَاعُد درجات الحرارة تَوَقِّيًا من الهَاجِرةِ ولفْحِ هوائها الساخِن. .. خُيِّلَ إِلَيَّ مرّةً وأنا أقتربُ منها وعيْنَايَ تَقَعَانِ على بِناية نُزل قديمٍ يُحاذِي الطّريقَ ويتوغّلُ في الغابِ. خُيِّل إليَّ أنني أعيشُ تفاصيلَ فِلمٍ غربيِّ قديمِ الأحداثِ حيثُ الحصون المَهِيبةُ التي تتخلّلُ الأدغال وتعْتَلِي قِمَم المرتفعات .!

على قارعِةِ الطريقِ في عين دراهم عيْنٌ ليست كالعيونِ تَخَطَّى صِيتُهَا حُدودَ المكانِ. هي عين بومرشان التي يَتقاطر عليها عابِرُو السّبيلِ من المصطافينَ والمسافرين إمّا لِلابْتِراد وإمّا للتزوُّدِ بالماء. وقد انتشرت حولها استراحاتُ المسافرين والمطاعمُ فأكسبت المكان حركيّةً لا تكادُ تهدأُ ويقلّ ضجيجُها حتى ينصرفَ الصّيفُ !

66693848_337586730478872_1268850046384734208_n

تُشيرُ المصادِرُ إلى أنّ تاريخ تأسيسِ مدينة عين دراهم يعود إلى ما بين عاميْ 1881 و1882 حيث لم تكُن في ذلك الوقت سِوى نواةِ مدينةٍ صغيرةٍ ذاتِ طابعٍ ريفيٍّ أساسًا تسكنها مجموعة من القبائل. وقد تَعاظَم دورُها ونَمَا شأنُها مع الأيّام لِتُصبح إحدى أبرزِ المناطق رِيادَةً من حيْثُ الاستقطابُ السّياحي في تونس لطبيعتها الجبلية ولقُربِها من مدينة طبرقة الواقعة على ضفاف البحر وهو ما يتيحُ للمصطافين الجمْعَ بيْن سِياحتيْنِ في آنٍ واحد، سياحةٍ جبليّةٍ تُتَاحُ للمُصْطَاف بين الجبال الشاهقة والأشجار الباسقة وارِفة الظِّلال. وسياحةٍ شاطئيّةٍ على شُطآنِ طبرقةَ وخِلْجَانِها الصخريّة ذاتِ المياهِ اللّازوردية الصافية … وهذه أيضا مَوْطِنٌ آخر من مَواطِنِ الجمال الأَخَّاذِ والطبيعةِ الساحرة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى