Uncategorized

بلاريجيا الملكية ثراء وشموخ حضارات

بلاريجيا الملكية ثراء وشموخ حضارات

جليلة كلاعي _ مكتب تونس 

في مصافحة للتاريخ حيث كلّ إمكانات السّيولة وكلّ إمكانات الخيال،قد تغويك المدن التونسية الملتحفة بقدامتها ورسوخها في الأرض لترسم انكسارات ظلالها في الأمسيات البعيدة، أو تشرع في التقاط أهازيجها المنسيّة من تحت الصخور العتيقة، نظمت وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية تحت إشراف وزارة الثقافة ، يوم 8 مارس 2023، زيارة استطلاعية للموقعين الأثريين بلاريجيا وشمتو من ولاية جندوبة، وذلك بهدف الترويج لقيمة هذين الموقعين والتعريف بالإرث الحضاري للولاية وإبراز الخصوصيات التراثية للجهة والمعارف والمهارات المرتبطة بها والتشجيع على السياحة المستدامة.


وقد تضمنت الزيارة ورشات حيّة ومعرضا لحرفيّات الجهة يتضمّن منتوجات من المرجان والزربية الخميريّة وتقطير الزيوت وتمليس الطين والعود الأصفر واللّباس التقليدي المحليّ.
وقال المدير العام لوكالة احياء التراث والتنمية الثقافية داودا صو إن الزيارة خصصت للصحفيين بهدف التعريف بالتراث المادي واللامادي للموقعين الاثريين بلاريجيا وشمتو وتثمين المخزون التراثي الذي يتميز بخصوصيات فريدة في الخارطة الأثرية في تونس ودعم اللامكزية الثقافية التي تتوخاها الوكالة وتحويل هذه المواقع إلى رافد في مجال التنمية الاقتصادية.

وأنت تتجول في هذه المنطقة من الشمال الغربي للبلاد التونسية وعلى تخوم سفح جبل ربيعة وبالتحديد في الموقع الأثري ببلاريجيا الذي تتناثر معالمه الفسيحة وعلوّ أعمدته تدرك للتوّ أنّ حرب المنطقة ضدّ النسيان قديمة ومتواصلة، ومن فرط الصمت المتدلّي من سمائها فيما يشبه قناديل من كلام القدامى تتبادر إلى ذهنك أسئلة كثيرة ربما تجد الإجابة عنها حين تتوغل في ثنايا هذا المعلم التاريخي ودون الحاجة إلى باحث أو عالم في الآثار.
إذ يكفي ما في المكان ليعطيك فكرة عليه: فالتسمية بلا الملكية تبدو تسمية مفخّمة بالنسبة إلى المكانة الحقيقية التي احتلتها هذه المدينة في التاريخ لكنّها مبرّرة لأنّ بلاّريجيا ظلّت في القرن الثاني ق.م عاصمة لإمارة نوميديّة ناتجة عن ضمّ مملكة ماسينيسا.

منازل فخمة ذات طابقين أحدهما سفلي تحت الأرض يساعد على التأقلم مع الحرارة المتفاوتة صيفا وشتاء والتي تُعدّ بحقّ دررا في مجال العمارة السكنية لتونس في العصور القديمة وتحمل هذه المساكن أسماء متعددة مثل منزل الصيد البري ومنزل الصيد الجديد، ومنزل صيد السمك، ومنزل الفسيفساء، ومنزل الكنز … في إشارة إلى الاكتشاف الرئيسي الذي عُثر عليه بكل مسكن من هذه المساكن، والذي غالبا ما يكون موضوع أرضية الفسيفساء، المزيّنة للأوّل والثاني، وتمتاز بتعدّد غرفها ومرافقها العجيبة:من ذلك احتواؤها على كنيسة خاصة يتعبّد فيها سكان المنزل الكثيرون، وعلى حمّامات خاصة بهم. ولعلّ هذه المنازل كانت خاصة بسكنى الصيادين الأثرياء أو المنخرطين في الجمعيات المنظمة لمهرجانات بلاّريجيا.


الفسيفساء في الموقع الأثري ببلاريجيا شيئا أخر يحملك إلى عالم الخيال والتصورات عن هذا الفن وجماليته وتوظيفه لرسم حياة من مروا بالمكان وعاشوا فيه وتحاكي حياتهم اليومية لا بل أكثر من ذلك تحدثك هذه اللوحات عن فترة ازدهار وتقدم عرفها المكان في مرحلة تاريخية ما ليروي لك بعضهم عن مدينة فسيفسائية بامتياز وبعض الجوانب من الحضارة النوميديّة.


في بلاّريجيا جميع مكوّنات المدينة القديمة يتجلى لك من الوهلة الأولى وأنت تكتشف المكان من معابد ومسرح ومنازل وأفنية وأعمدة وجدران بتقنيات تعطيك تصور عن قيمة المعماريين الذين مروا من هنا… فالمنطقة حاضرة من حواضر مملكة “نوميديا” القديمة ومنبت الأحلام الأولى للأجداد البربر.
هي مدينة تكتب شعرًا طازجًا يحاول وصف بروق لمعت منذ قرون وكسرها عتوّ الزّمن فحوّلها إلى بحار من ذاكرة تسكنها مغويّات وديمونات وسيرانات ساحرة لا تكف عن فتنة المدهوشين وأسرهم فيركبون معها الموج ولا يخرجون، فتصبح تلك الأطلال وبقايا المدن والعمارة وجهتهم ومشتهى أعينهم فينشئون إليها دروبًا من بلاغة الكلام في ظلال للعابرين، فيستبطنون جمالها وقصصها ليرووه من جديد، ولؤلؤة فريدة قاومت رماد النسيان وظلّت باقية كالوشم على خدّ الزّمن.


هذا التاريخ العظيم لبربر شمال إفريقيا الذي ترويه إلى اليوم السهول الفسيحة للمنطقة مازال جزء كبير منه تحت رماد النسيان وتحت طمي ضفاف الوادي فالحفريات منها 25% بالمائة فقط أي مازال تحت الأرض 75%، ولكن السؤال الذي يطرح هو متى تنطلق الحفريات وتزاح الأتربة ويرفع تراث البلد وتشعّ عليه أشعة الشمس من جديد؟ ومتى يتم تحريك عجلة الاقتصاد بالمنطقة التي تبدو لصيقة بتقدم الحفريات؟ ذلك انه توجد تقنيات جديدة استعملت في العديد من الدول العربية (فلسطين) كالتصوير بالأشعة لكشف الجدران والأروقة وكل ماهو مبني ومدفون تحت الأرض بفعل الفيضانات والأتربة المتراكمة عبر السنين.
لقد حان الوقت ليعود بعض الألق لتاريخ البربر وحان الوقت ليبدأ الحفر الأركيولوجي بالمكان بعيدًا عن التعويل على التحفّز الذاتي للباحثين المهتمّين.وإعادة تثمينه بالشكل المطلوب سواء في مستوى تعصيره أو إدراجه في المسالك السياحة الثقافية وحثّ وكالات الأسفار على إدراجه ضمن أدلّتهم ومطوياتهم الإشهارية. إذ لا يكفي بعث المتاحف بل لا بدّ من ضرورة الاشتغال على محيطها وتحسين طرق الوصول إليها وتأمينها وإبرازها.


موقع بلاريجيا ممرٌّ سياحيٌّ جذأبٌ ومعطاءٌ، وسيبقى دائمًا كذلك، وردًا طازجًا لأمجاد نوميديا القديمة التي سفحت على مذبح النسيان لكن شذاه وسحر لونه يتسلل إلينا كلّما مررنا بالمكان.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى