عبد الوهاب البراري ـ تونس.
مع نسمات الفجر الباردة وفي وقت رحيل اخر نجوم الليل المتوارية خجلا خلف السّحب الدّاكنة الاتية من الشّمال، سحب حبلى بغيث نافع اشتاق له تراب الأرض اشتياق الرّضيع لثدي الأمّ، في تلك السّاعة ما بين الظلمة والضّياء، يبدأ توافد النّسوة مثنى وثلاث ورباع، يسرعن الخطى صوب مسجد القرية ليحتمين بسوره من نفحات الصّباح القارس.

تلقي الوافدات على من سبقنهنّ تحيّات صباحية بأحلى ما يمتلكن من العبارات حفظنها عن ظهر قلب، كلمات كأنّها فيروزيّات من زمن نصري شمس الدّين وصباح فخري في حين تظلّ الأخريات مشغولات بمراقبة الطّريق الى أبعد نقطة يمكن أن يصل اليها البصر من خلال الظلام الذي بدأ ينجلي رويدا رويدا. كلّ ذلك في انتظار ظهور سيّارة الحاج مصطفى صاحب الضّيعة.
هناك بعيدا يتراءى لهنّ ضوء السيّارة فتتمتم الحاجّة مبروكة أكبرهنّ سنّا: هاي جات (لقد أتت)، اعتادت النّسوة على صوت محرّكها حتّ أصبحن يميّزنه من بعيد.

تتوقّف السيّارة العجوز أمام المسجد فتتسابق العاملات الى الصّندوق الخلفيّ للسيّارة في حين تتقدّم الحاجّة مبروكة بخطى بطيئة الى المقعد الأمامي كعادتها بجانب الحاج مصطفى، يسألها كعادته عن صحّتها وعن شويهاتها ليتلقى نفس الإجابة أن الحمد للّه، لم يعد لها من مؤنس سوى تلك النّعاج بعد رحيل زوجها الطيّب ونزوح أبنائها الستّة الى العاصمة بحثا عن لقمة عيش أصبحت صعبة المنال في القرية وتعلّق الحاجّة مبروكة بقريتها وقربها من قبر زوجها الّذي تقوم بزيارته وتنظيف محيطه والدّعاء له.
يصل الموكب الي الضّيعة فتعمد أصغر العاملات سنّا وأفضلهنّ قوّة الى الفرش البلاستيكيّة ينشرنها حول الأشجار المعدّة لتجريدها ممّا حملت من حبّات زيتون، بعدها تُنصب السلالم المزدوجة المعروفة ب(الصرّافة) حول الشجرة فتتسلّقها أكثر النّسوة خبرة وتبدأ عمليّة التمشيط حيث يمرّ المشط البلاستيكيّ بين الأغصان يجرّدها من حبّات الزيتون ويُبقي على الأوراق.
تتساقط الحبّات على الفرش محدثة أصواتا رقيقة كأنّها نقرات أنامل موزارت MOZART على البيانو في عزف لسنفونيّته الأربعين أو لأعراس الفيقارو The marrige of figaro

تهيّء الأخريات الصناديق البلاستيكية المعدّة لتجميع الحبّات.
مشهد أشبه ما يكون برقصة باليه (Ballet) من تصميم أكرم خان تتخلله من حين لآخر أغنيات عذبة من تراث الوطن وأفراح الزّمن الجميل.
قد يواكب هذا الحدث السّنوي حينا بعض السّوّاح المارّين قرب الضّيعة فيشاركون أبطال تلك الأوبرا فرحهنّ بابتسامات وعبارات اعجاب لا تفهمها سوى من نالت حظّ الجلوس على كراسي الدّراسة لبعض السنين، ثم ينتهي حضورهم بتخليد بعض المشاهد على عدسات تصويرهم.
وحينا اخر يستقبل ذلك المسرح الرّيفيّ مجموعات من الدّارسين لتسجّل ذاكرتهم الصّغيرة جانبا من الحياة الرّيفيّة ومن رحلة الزّيت من الشجرة الى موائدهم.
لا يفوتنا التّأكيد على العلاقة التاريخية التي جمعت أرض تونس بشجرة الزّيتون منذ القدم، الشيء الذي جعلها تحتلّ مكانا متميّزا في دفاتر التّاريخ، فتونس هي الأكثر شهرة في هذا الباب ضمن أقطار حوض البحر الأبيض المتوسّط، تشهد على ذلك ضيعة الشعّال في محافظة صفاقس بمساحة 18725 هكتارا تحتلّها 400 ألف من أشجار الزّيتون.

انّ شجرة الزّيتون لها ماض ضارب في تاريخ هذا الوطن الصّغير في رقعته، الكبير بتراثه المادّي ولا يزال. 
فتونس وعلى امتداد قرون من الزّمن احتلّت المراتب الأولى في انتاج الزّيتون وأشهرهم من حيث الجودة وغزت بذلك أسواقا خارجية في جميع قارّات كوكبنا الصّغير وكسبت من وراء ذلك العديد من الجوائز القيّمة وشهرة عالمية تنافس بها اسبانيا واليونان والمغرب وغيرها.
نختم رحلتنا مع شجرة الزّيتون بالتطرّق لمرحلة من رحلة الزيت من الشجرة الى أسواقنا وموائدنا، نعني بذلك المعصرة بين الأمس واليوم.
أينما وُجدت شجرة الزّيتون ظهرت المعاصر وتطوّرت معدّاتها عاما بعد عام، لكن كثرة المعاصر الحديثة وتطوّرها لم يلغ وجود المعاصر التقليديّة ولم يضع نهاية لحياتها. بل مازالت وجهة يحبّذها الفلاحون ويحبّذ المستهلك زيتها طلبا لمذاقه المرّ بعض الشيء ولونه الدّاكن.
من لا يعرف تلك المعصرة التقليدية نقول أنّها عبارة عن حوض دائري من الحجارة الصّمّاء يتوسّطه قرص (أو قرصان) يجرّه حصان أو دابّة أخرى، يدور وسط الحوض ليطحن حبّات الزّيتون حتّي تتحوّل لعجين يضعه عمّال المعصرة داخل أقراص من الحلفاء بها ثقب في وسطها ثمّ يقع ملؤها بعجين الزيتون وتُثبّت فوق بعض ثمّ تسلّط عليها الالة ضغطا عال يُخرج من تلك الأقراص زيتا لا تشوبه شائبة……
تلك هي شجرة الزّيتون وذلك هو زيتها وبعض ضئيل من تاريخها، شجرة اقترن اسمها بتاريخ الوطن ولم يفترقا.
				
					
					
					
					
					
					
					
					
					
					


