مقالات

الكبارة2: (مصلي علّوش في القلّة بالمتلوّي ) .. ليلة النّصف نصف حفل وإطلالة على المباهج | مجلة السياحة العربية ..#السياحة_العربية

بقلم _ عمار التيمومى 

اعتاد النّاس بقريتي افتتاح مواسم الأعياد والهدايا انطلاقا من ليلة تمام قمر شهر رمضان في سمائنا الصّافية فتُعدّ أحلى المآكل وأشهاها وتنطلق رحلة إعداد حلويّات العيد أمّا بالمدن ولاسيما العاصمة فتنشط الشّوارع وتكتظّ المقاهي وتزدهر المتاجر خصوصا منها تلك المستهدفة لشهوات الأطفال فتتنوّع ملابسهم وتتلوّن وتكثر لُعبهم من عرائس للبنات ومجسّمات دببة ونحوها أمّا الأولاد فلهم الكجّات والخذاريف والمسدّسات والسيّارات والطّائرات والقطارات و… وكلّها لُعبٌ. كما يتكاثر روّاد الكافيشانطاcafé chanté

ويقلّ عدد مُصلّي التّراويح ويزداد الإقبال على الحياة ويتضاعف التّعلّق بمباهجها وتنشط متاجر طالما ركدت إنّها متاجر البخور ولوازم العرائس ومغازات الهدايا وسوق الذّهب والفضّة والنّحاس استعدادا لتلبية رغبات ذوي الودّ وهديّة الملح وواجب “المُوسم” وما أدراك ماهو؟!..

اعتاد الخطيب أن يبذل الهدايا في مواسم من السّنة وما أكثرها! إرضاء لعيني عروسه وطلبًا لرضى أهلها وسدّا لأحناك الأجوار والأقارب التي تهوى التّقوّل والنّميمة والخوض في ما لا يعنيها فالتّطفّل عندهم رياضة محبّبة قد تصل حدّ النّمائم والدّسائس فيسعدهم نفور الحبيب من حبيبه ويأمنون لأفعالهم الشّيطانية تُوغل قلوبًا على قلوب وقد كانت بالأمس حمائمَ وئام وأنباض فرح وعطف…

حان موعد انطلاق مصطفى ب”مُوسمه” إلى عروسه بعد طول نقنقنة من أمّه الحاجّة مباركة ولسان حالها يردّد:

_”باش تخلّينا ضحكة وسط النّاس”

فما كان منه إلاّ الرّضوخ لرغبتها بعد طول ممانعة وأفّ وها هو يتأنّق في ملابس جديدة ويسوّي شعره بعناية ملّتها المرآة الجدباء المعلّقة بظهر الباب وحتّى الحاجة تزيّت بحرام سواكي ولفاعة بيضاء من الحجّ وخضّبت سوالفها باللّخلوخة الفوّاحة ودسّت بثنايا جسدها مسحوق الشبّ والمسك فاليوم قيظ والعرق سيّال .. بعد قليل ستحضر سيّارة علي السّرجان السّوداء لتُقلّ كلّ من بالبيت إلى دار العروس يحملون موسمها : قُرطان وقَصّة قُماش وطقم قهوة خزفيّ …

أضحى الزّمن فحلّت العربة سارعت هنية أخت مصطفى تربط لفاعتي رأس حمراوين بمرآتي العربة وهما الشّهادة على أنّها للحفل.. هدر محرّك السيّارة بعد هَجعة قصيرةٍ ورافق الطّاهر أب العريس السّائق ومعهما في قُمرة القيادة المدّب محمّد الصّالح بعد أن شمّر جبّته فهو وجيه يُتوسّل به في الثّنايا البعيدة والمقاصد العسيرة وقد احمارّت وجنتاه من أثر النّعيم فهو لا يغيب عن أيّ وليمة.. أمّا البقيّة فقد تقافزوا في صندوق الشّاحنة وقد غطّاه صاحب السيّارة ب “باش” أخضر أحكم غلق أسباته وكان الصّبيّ ذا حظوة عند مصطفى وأمّه أهّلته للقفز مع القافزين من دون الأطفال المشرئبّة أعناقهم للسّفر فيلعنون حظّهم ويغبطون ذا الحظوة. سارعت السيّارة تلتهم المسافة التهاما وتتلوّى في المنعطفات بين الجبال والهضاب والزّغردات بالصّندوق لا تنقطع كيف لا والسّلطان مصطفى يجلس على باب الصّندوق المُوصد رغم مقامه وملابسه الجديدة …

إنّ العربة تقصد المتلوّي مهد العروس فاطمة ومن يقصد قفصة كمن يتحسّس كبده يشعر بكلّ وخزة فيه لكنّه لا يلمسه للّه درّ قفصة الكبد! تخدم الجميع ولا أحد يخدمها ولا يذكرها الجسد إلاّ حين يحتاجها في لحظات صفائه وهي قليلة أو حين تتألّم فوخزها وجّاعٌ… ظلّت السيّارة تشقّ طرقا مديدةً وأحياءً كثيرةً وقرًى قليلة الدّور مُوطّأتها ويرتفع صوت الخالة ساسية صقيلة النّاب الذهبيّ بأنغام متتالية يذكر منها الصّبيّ:

يا غيم العشوة ويا ربّي يا غيم العشوة ويا ربي يا ياغيم العشوة وطالت الأيّام وتوحشنا يا ربي ..يا يا طريق قفصة وحصحاصك يا ولّى جاوي حليل المعشوق آش يلاوي يا عذابي.. يا ويا مشية خالي مشية الغزال فوق النّدوة يا فوق النّدوة .. ماجاش اليوم يرجع غدوة .. ويا عذابي.. يا داهمنا الأصيل وقد أشرفنا على وسط مدينة المتلوّي العامرة بعد أن انتهت السيّارة من طيّ طريق على جنباتها حلفاء ونبت عنيد يصارع قسوة المُناخ ويظلّ صامدًا في هدوء لا تقوى عليه الرّيح ..بالمتلوّي أناس طيّبون لا يناعة زائدة فيهم وجوهم لطيفة بالغريب مرحّبة توقّفت العربة فقفز مصطفى إلى “المرشي” يستكمل شراء ما توفّر من بعض الغلال وبعض ما نبّهت عليه أمّه وأختاها وتزوّد بعلبة سجائر فخمة تليق بالعرسان وعاد قافزا مستبشرا فبيت العروس قريب… توقّفت العربة أمام بيت ترابيّ الجدران واسع الباب على جنبيه حظائر للشّياه فالحاج علي أبو العروس من موسري الجهة وأعيانها .. استقبلنا البيتُ بحفاوة وصُبّ علينا الماء من أباريق للاغتسال من غبار الطّريق وبُسطت فُرش وثيرة للرّاحة وانهمك الشّيوخ في حديث المُناخ والصّابة وانطلقت ألسنة النّسوة في ذكر أخبار الزواج ومغامرات الجحفة والفرسان امّا فاطمة فعلقت بنافذة تحادث من وراء مشبكها عريسها المنتظر وأمّا الصّبيّ فقد سعى على أثر سعاد خالة العروس وهي المكلّفة بإعداد مائدة الإفطار فملأت لمرافقها مِشرب لبن من شِكوته وما فُصلت منه زبدُته وقد عطّره الكليل بورقه الإبريّ. فشرب الصّبيّ أغلبه وظلّ يحادث الخالة سعاد وهي امرأةٌ نَصَفٌ كثيرةُ الحركة حلوة الكلام…

أخذت سعاد قُلّة فخّارية ذات عروة وحيدة كانت قد وضعتها لليلة بأكملها في ماء نقيّ وقلبتها بالصّباح لتتخلّص من حُبيبات الماء العالقة .. تناولت قطعا كبيرة من لحم الضّأن عُقر منذ قليل للأضياف وضعتها بقصعة كبيرة ووضعت عليها بهارات هي مقدار ملعقة فلفل أسود وملعقة كركم وملعقتي ملح وملعقة زعتر وملعقتي كليل وملعقتي زيت وخلطت اللّحم بالأفاويه جيّدا وغطّت القصعة ليستوعب اللّحم معطّراته ثمّ صبّت مقدار أربع ملاعق زيتًا بالجرّة وشرعت تحرّك الجرّة حتى يسيل الزّيت على كلّ مساحتها الدّاخلية ثمّ شرعت في وضع قطع اللّحم بالجرّة ومعه أربع سنّات ثوم وتصبّ نصف كأس ماءً في قصعة اللّحم كي تجمع ما علق بها من بهارات وتصبّه بالقلّة مع حبّات فلفل وحبّتي بصل وأربع حبات طماطم وتحرّك الجرّة لتتداخل مكوناتها ثمّ تُحكم غلق الجرّة بورق الألمنيوم مطويّا وتحيط عنق الجرّة بعجين الفارينة لتضمن عدم مغادرة البخار ثمّ تأخذ جرّتها إلى فرن الخبز وقد احمارّ جمرُه وتأخذ سكّينا لتثقب بذؤابته الغطاء ثقبا وحيدا وتَذَره على الجمر مدّة ساعة أو أكثر بقليل وفي منتصف الوقت تحرّك جرّتها.. وحين تسمع تشتشة الزّيت توقن بأنّ اللّحم قد نضُج فتُنزل قلّتها عن ركاب النّار حتى تبرد قليلا ثمّ تشرع في إزاحة الغطاء لتعمّ المكان رائحة زكية تخلع القلوب .تصبّ محتوى الجرّة في طبق أنيق ينتظر أذان المغرب ليلتحق بباقي جُند الطّعام على المائدة.. عند الأذان تنسحب الأنفس من الأنفس وتنكبّ على مائدة شهيّ قطافها .. وتظلّ الوجوه بسّامة آملةً …

60611019_338001370240557_3297712302601535488_n

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى