مقالات

بـُولاّريجيَا

بقلم الاستاذ سعيد الشعابي

دَعْ شيئا من عَبَقِ التاريخ يملأُ كيانك، وارفع الماضي من أعماق الزمان، ستنبعث الحياة ها هنا شيئا فشيئا بين مفاصل الصخر وفي انحاء المكان. انك في بولا ريجيا، ها هنا كلّ شيء يَشِي بالتاريخ وبِعَبَقِهِ فالجذور تضرب في الاعماق والفُروع تحكي صامتة قِصَّةَ المكان .. اِنْعَطِفْ يَمِينَا وأنت تُغادِرُ مُفتَرَقَ تقاطُعِ طَرِيقيْ جندوبة – طبرقة عَبْرَ فرنانةَ وعين دراهم من جهةٍ. وغارالدماء – بوسالم عبْر الموقع الأثريّ شمْتُو من جهة أخرى ..
حدَّدْنَا الآنَ وُجهتَنا. إنّنا باتجاه بولّاريجيا .. كُـتَلُ الصّخرِ المُتناثِرةُ، والأعمدةُ الضخمةُ القائِمَةُ منذ قُرونٍ والبيوت ذاتُ الطّابِقِ الكامِنِ فِي جَوْفِ الأرضِ طلَبًا للبرُودةِ أيّامَ الحَرِّ. وَسَطْوَةُ المكانِ. سيجعلك ذلك تمْثُلُ مُندهشا في حَضْرَةِ التاريخ!! وسيَمتَلِكُك المكانُ فتَتنَاهَى إلى سمعِك خطوات المارّة وَوَقْعُ سنَابك الخيل قادمةً من جوْفِ الزّمان ! .. إنك تستعيدُ تفاصيل التاريخ، فَبُولّا رٍيجيا هذه، تُشير المصادرُ بِشَأْنِهَا إلى أنّ أوّلَ ظُهور لِاسمِها اقتَرنَ بِحدثِ لُجُوءِ الملك النوميدي ” هيارباس ” إِليها هاربًا عند مُطاردته من قِبَلِ الرّومان. وتُشير مصادرُ أخرى الى أنّ تاريخ هذه التسمية يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد وهو ما تُبيّنهُ بعضُ النقائشِ اللاتينية في مواعظ القديس ” اوغسطينوس ” التي ترجع إلى نهاية القرن الرابع قبل الميلاد. ..
 في القرن الثالث ق.م ” تَبَوْنَقَت” بُولَّا فاتّسمت حياة السكان بالنمط البونيقي، مُعْتقَدَاتٍ دينِيّةً، وكِتابةَ، وطُقوسًا جنائزيةً.  ويُذكَرُ فِي بعض المصادرِ أنَّه تمّتْ عِبادةُ الإله “بعل حمون” .. في ذلك الوقت.
 سنةَ اثنتين وخمسين ومائة قبل الميلادِ، تاريخِ بسطِ الملك النوميدي “ماسّينيسا” نفوذه على بولا، تنطلقُ الفترة النوميدية. وبِانطِلاقِها ظهرتْ لفظةُ “رِيجْيَا” الواردةُ في الإسم، وتعْني: المَلَكِيَّةَ. وهكذا اقترنت اللّفظتانِ فأصبحت “بولاريجيا”، التي أًصبحت وقتها عاصمةَ إقليمية.
 في الموقع الأثري بولّا ريجيا تُوجد جميع مكوّنات المدينة الرومانية القديمة كالمعابد والحمامات العمومية والمسرح.. التي تجسّدُ الفترة الرومانية التي عاشتها المدينة مع بداية القرن الأول الميلادي أيْن أصبحت مُلْحَقَةَ بِرُومَا وذلك في عهد الامبراطور “أدريان”. وَبِمُقْـتَضَى هذا الإلحاقِ، أَحْرَزَ سكانها المُوَاطَنَةَ الرومانية. وقد بدأت المظاهر الرومانية في الناحية المعمارية تتجلّى في القرن الثاني ق.م لِـتَبْلُغَ أَوْجَهَا خلال القرن الثالث ق.م.
 إنَّ أعجب ما في الموقع الأثري بُولّارِيجيَا هو المنازل ذات الطابق تحت أرضي الذي يحتوي على تَبْلِيطَاتٍ بديعةٍ من الفسيفُساء. ومن أروع هذه اللوحات الفسيفسائية لوحةُ الآلهة ” أمفتريت “.
 بولاريجيا التاريخُ المُوغِلُ في القِدَمِ، موقع أُثريُّ رائعٌ يكْتَنِفُهُ يُوجد غيرَ بعيدٍ عن مدينة جندوبة التي تُعتبرُ وريثة هذه المدينة الأُثرية ذات الامتداد التاريخيّ الكبير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى