مقالات

“الخيمة سَكَنٌ جوّالٌ” .. الإفليج سفر بين الغرارة والخيمة نسج لأثر من إهاب الأنعام | مجلة السياحة العربية .. #السياحة_العربية

بقلم ا. عمار التيمومى

كانت العرب تسكن بيوتا سائحة في الأرض يطوونها كلّما عنّ لهم الرّحيل من مُنتجع إلى آخر أو من مِصر إلى مِصر.. أجملْ بها من حال تسودها الحرّية والانطلاق وها أنّ الإنسان اليوم في كلّ الأقوام ميّال الميل كلّه إلى السّياحة في الأرض رصدا لبهاء طبيعتها ومُناخها وطلبًا للذّة العين والجسد ومُتَع العقل واستنشاقًا لشذى الرّوح التي بثّها الإنسان في المكان…

53833968_978668635854195_4727035465469788160_n

لنا _نحن العربَ_ مفاخر أخنى عليها الدّهر بديارنا وعفا عنها الزّمن وهي في الأصل ثمر صنائع كانت الأمهات والجدّات يقبلن عليها ويدرّبن عليها أنامل الفتيات منها نسيج الأغطية والمفارش ومنها صنع الآنية للطّبخ والغذاء ونحوها من أدوات للحياة يحتاجها المرء في معاشه. فتنبري السّواعد والأذهان لتحصيل المادّة ثمّ تتفنّن الأنامل في إخراجها إخراجا بهيّا ونافعًا. وينشط بنو البشر في تطوير ذلك جيلا بعد جيل… وقد ورد بسورة النّحل أيتها (80) قوله تعالى  “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ “

54432562_387009822144976_1386316899419160576_n

 ولعلّ الغرارة _وهي وعاء من الخيش يوضع فيه القمح ونحوه وهو أكبر من أكياس الحلفاء ويجمع على غرائر- ممّا ندر وجوده حتى أوشك ينقرض فمادة صنعه تناثرت والسّواعد النّاسجة له رحلت لتسكن أديم الأرض علاوة على انحصار الحاجة إليها بعد الهجمة الشّرسة للنّسيج الصّناعيّ وآلاته. فكاد بحثك عن خيمة تقليدية منصوبة يعدّ من المعجزات العزيزة الوجود. فحتى أولئك الذين “يتخيّمون” أي يتزوّجون ويصيرون أرباب بيوت تخصّهم، زهدوا فيها ومالوا بحكم تطوّر الأعصار والحاجات إلى بيوت من صخر وآجر تثبت بوجه الأرض سواء أكانت بالمدائن أم بالقرى أم كانت منعزلة في المروج أو الفلوات ونحوها…

الخيمة هي بيت هرمي الشكل منسوج من وبر الإبل وشعر الماعز ومتروك صوف الغنم. تنسجها حرائر الوطن شرائط شرائط تدعى “افليج” ثم يخيطها الشيوخ العارفون بإبر عظيمة _يُدعى مفردها “المخيط”_ بواسطة خيوط “النّيرة” وهي مغزولة من جنس مكوّنات الخيمة. ويمتدّ طول الشّريط الواحد من سبعة إلى عشرة أمتار…تُنصب الخيمة بساريتين ترتفعان بشكل متعاكس يربطهما حبل غليظ يُختلف في تسميته فهو “العارض” وهو “المشدّ” وغيرهما… وتُشدّ أطراف الخيمة خلافا متناظرا إلى الأرض بواسطة أوتاد من صلد الأخشاب عادة ما تُقتطع من الأغصان المشتدّة من شجرات الزّيتون والخرّوب وما شابهها… 

54435428_1114398545399664_8112294891079335936_n

أمّا الغرارة أو “العديلة” فهي أهمّ مايتّخذ في الرّحلة على الأتن والبغال والجمال وتملأ قمحا أو شعيرا أو حنطة أو دقيقا أو شحما أو سمنا أو تمرا أو ثيابا أو دراهم أو بضاعة يُتّجر بها…الغرارة حينئذ هي الوعاء أو الكيس تحمى فيه النّعم وفيه تخزن في سنوات الخصوبة والفلاح…

 وللخيمة أسبات تغلّف المحيط بين شرائط الغرائر كي تصمد بوجه العواصف والأنواء. ويُسدل بالخيمة سَتْر يفصل بين قسميها فيكون ما واجه فتحتها للعموم أمّا ما كان دونه السّتر فهو للنّساء والأسرار. وقد جرت العادة على أن يفتح باب الخيمة على مشرق الشّمس فينوبها من أشعّتها أسلاك منعشة وتأمن أمواه الأمطار متى هطلت والسّيول متى تدفّقت إذ تحميها السّواتر المحيطة فلا تخترقها جحافل الدّوابّ والعواصف والسّيول وتزورها أشعة الشمس الدّافئة .

53248476_355518281731216_1369590127810052096_n

ويمرّ إعداد نسيج الخيمة بمراحل نبوّبها كما يلي:

١- الجزّ في حفل يكون بختام أيام الرّبيع ويختلف قطف وبر العير عن قصّ شعر الماعز وعلى خلافهما يكون جزّ الأغنام بعد بطحها أرضا وإعمال مقصّات تُوسم ب”الأجلام”. ويكدّس محصول الجزّ ليرضخ للفرز أيّها أصلح للّباس أو الأغطية أو المفارش ومالم يصلح لهذه الأغراض فمآله أن يخلط بالوبر والشّعر ليؤلّف بينهما.

2 – التنقية : تنقية الحصيلة من الأشواك والأتربة والقشّ العالق بالوبر والشّعر والصّوف بواسطة “مطرق” وهو عصا ملساء تتّخذ لنفض الصّوف وخبطه قبل أن تأخذ عواتق النساء مادّة النّسيج إلى الغدير أو البئر تغسلها. وتنشرها عند أهداب الشّمس تجفّ…

3- التّمشيط: تخلط الحصيلة حتى تتجانس على أسنان مشط مدبّب الأسنان حتّى تترابط الأسلاك ويلين شاردها. وتشدّ يدا الصّناع جماعها وتجذبه جذبًا قويّا مُتقنًا فتنسبل بين يديها ضفيرة ملساء تسمّيها “البوص”.

54264005_833205403682076_8620815260829351936_n

4 – الغزل : وهو لفّ البوص وفتله حتى يضحي خيوطا تُلفّ حول مغزل ذي “ثقّالة” ويستمرّ الغزل والغازلة شادية بأصوات الهوى حتى تكبر اللّفة حول عصا المغزل . تبرمه لاحقا في كبّة ماتنفكّ تتعاظم وعند الانتهاء من هذه المرحلة تأخذ المغازل في لفّ خيوط الكبّة بخيوط كبّة أخرى حتى يشتدّ ويمسي حُبيلا شديد الثّقة على رقّته ، ثم تلفّ الخيوط حول ألواح تيسر تمريرها لاحقا بين خيوط المنسج المطروح أرضا على امتداد ماينفكّ يقصر إن همّت به النّاسجة تنسجه فيقرب منها النّسيج الذي تفترشه بعد أن افترشت لليوم الأوّل جلد شاة وتستغني عنه بعد ذلك لتمرّر النّسيج تحتها وهي لاتبرح موضعها الأوّل ويدها جادّة في تمرير لوح الطّعم تكسو به عظم الجدّاد وتشدّه بمسنّ هو بمثابة “الخلالة” تدقّ الخيط على الخيط حتى يضحي المنسوج متماسكا عصيّ الطيّ. وعند الانتهاء من حياكة الأشرطة يتعيّن توجيه بعضها إلى “العدائل” والبعض الآخر ليكون سداءً للخيمة ويطوى النّسيج كلّ متر ونصف المتر ويخيط الأسياد طرفيه إلى بعضهما بعضا وينتج الخيط ما يشبه المسار الأسطوانيّ بحافتيْ الكيس ويظلّ الفم فاغرا بانتظار الخيرات يخزنها والمخيط بالانتظار لتسدّه مليئا فتمتلئ عينا صاحبه أملا.. وكلّما تضاءل علوّه تضاءل الأمل حتى يمتلئ ثانية. أمّا ما خُصّص من الأشرطة للخيمة -ويكون عادة بين السّبعة والتسعة أشرطة- فيشدّ بعضها إلى بعض بخياطة محكمة تسترها أسبات وتظلّ أطول من الشّريطين لتوثق إلى الأوتاد المثبّتة. أمّا حافتا الباب فيلحقها سبت عريض يقيها سرعة التّلف.

53761072_446796082526888_7961428259227303936_n

ويحتاج رفع الخيمة على ساريتيها ذاتي الثّلاثة أمتار رجالا أربعة أشدّاء على الأقلّ حتى تنتصب بيتا تشدّ أوتاده ويُفرش بحصائر الحلفاء والجلود وتبسط المفارش خلف الأستار وتؤمّن المؤونة والأغطية في ركن منيع. وتزدهر الحياة بالخيام الحامية ويحلو السّمر قبل رقاد حالم تكون صباحاته حبلى بالبِشر والأمل. ويظلّ أهل الوبر يطوون بيوتهم كلّما عنّ لهم الرّحيل بحثا عن الكلإ ليبسطوها حيث شاؤوا وأسارير وجوههم منبسطة. أليست السّياحة أهمّ أبواب الفرح؟…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى