مقالات
دار شعبان الفهري … تحفة حجرية بأدوات تقليدية .. زينة الواجهات ودعامة البيوت
كتب / زهير دنقير
بما أن تونس ملتقى العديد من الحضارات بونيقية ورومانية واغريقية وقرطاجانية وعربية /إسلامية وهو ما ساعد على تشكيل مخزون تراثي وحضاري فسيفسائي فيه الكثير من التنوع والثراء وتناقلت الأجيال المتعاقبة العديد من عادات وتقاليد هذه الحضارات على غرار الحرف التقليدية وعادات الملبس والأكل والمعمار وسلوكيات ثقافية أخرى لا تزال الى اليوم حاضرة بخصوصياتها ورونقها.
فانه لا تكاد تخلو جهة من الجهات من منتوج حرفي اشتهرت به ونجحت فى تطويع ما توفر بها من مواد اولية لصناعة مستلزمات عيشها وما تعاقب عليها من ثقافات وحضارات طبعت نمط حياتها.
يندهش الزّائر اليوم لبلادنا أمام العديد من الواجهات التي لا مثيل لها في أيّ بلد من العالم. وهذه الواجهات لبنايات خاصّة أو عامّة تعكس إبداعا ودقـّة وحرفيـّة عالية وهي مصنوعة من الحجر الطبيعي المنقوش والمحفور يدويـّا وهذا ما يجعلنا اليوم نتحدث على مدينة دار شعبان الفهري و التي تحتوي على 49358 نسمة حسب إحصاء 2014 فهي معتمدية من معتمديات ولاية نابل التونسية، مدينة عادية. تسمى بمدينة النقش على الحجارة التي أضفت جمالاً عليها، بسبب النقوش المختلفة.
يقترن اسم “دار شعبان الفهري” حسب الروايات بشخصين وعلمين تاريخيين ربطت بينهما علاقة وشيجة: شعبان مشماش، وإليه تنسب بلدة دار شعبان، حيث كان ممثلا للدولة الإسلامية بمنطقة الوطن القبلي المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وأحمد الفهري الأنصاري الذي قدم من الساقية الحمراء واستقر به المقام قرب قصر شعبان حيث تزوج ابنته. وبمرور الزمن تكونت من أحفاد الفهري جنوب قصر شعبان بلدة عرفت زاوية الفهري إلى جانب أهل شعبان المستقرين حول القصر.
و إثر الاستقلال وبتاريخ 9 جانفي 1957 وعند تأسيس أول بلدية بهذه الربوع توفق أهل المنطقتين إلى توحيدها ضمن اسم واحد يشملهما معا وهو “دار شعبان الفهري”، عملا بمبادئ الإسلام المحرضة على تمتين صلة الرحم ومن منطلق موقف حضاري يمقت التفرق ويدعو إلى الوحدة.
اشتهرت مدينة دار شعبان الفهري بالصناعات الحرفية التقليدية وأهمها صناعة النقش على الحجارة , هذه الحرفة التي تسمّى نقش حجر دار شعبان تكاد تقتصر على مدينة واحدة في البلاد التونسية إلا وهي مدينة دار شعبان الفهري .
تتوزع ورشات نقش الحجارة في أرجاء المدينة تحت أروقة ذات أقواس عديدة تنبعث منها موسيقى أصوات أزاميل النـّقش وهي تحفر الحجر يرجع فنّ النـّقش على الحجر في بلادنا إلى العصر الحفصي كما يتّضح أثر ذلك في جنبات أوّل مئذنة في العاصمة، هي مئذنة جامع القصبة.
تستخرج الحجارة من أحشاء جبلين قريبين وهي حجارة تتميّز بالصّلابة والهشاشة في نفس الوقت وكأنـّها رمل مضغوط ممّا يجعل نقشها ورقشها وحفرها سهلا دون أن تصاب بالتفتّت بمفعول الزّمن والعوامل الجوّية؛ يتحوّل ذلك الحجر من البياض إلى الأصهب والوردي، الحجارة بدار شعبان الفهري كانت في أولها مقتصرة على الحجر الشعباني وهي حجارة خلاياها ملتحمة نسبيا حيث يظهر على سطحها نوع من الحروشية، ثم جاءت بعدها الحجارة المعروفة بالقريوني وهي نوع أشد التحاما من سابقتها فهي ملساء تعين العامل على التكيف و التأقلم معها، ثم بعد ذلك ظهرت أنواع أخرى من الحجارة تعرف بالفريشيش وهي حجارة ذات طيات متلاصقة فوق بعضها، ثم اكتشفت لاحقا حجارة مدينة قسورالساف المعروفة بسلقطة وهو نوع جيد لكن بعد الاختبار فيما بعد ثبت أن فيها بعض السلبيات و قع تحسينها ثم أخيرا ظهر نوع آخر من الحجارة الوردية اللون وهي ما يعرف بحجر مدينة قابس مطواعة لكن أصلب من سابقاتها و تحتاج إلى مهارة أقوى منذي قبل وهي جميلة من حيث اللون لكن تجلب من الجنوب التونسي و تتكلف باهظة الثمن من حيث النقل.
ومن شباب المدينة نوفل العوني ابن دار شعبان الفهري سرعان ما تعلم أسرار المهنة وأتقن أدق تفاصيل الحرفة ابتداءاً من استخراج الحجارة من مقاطع الحجارة في الجبال مروراً بطريقة تنظيف وتحويل الحجارة إلى أشكال مختلفة وصولاً إلى زخرفة الحجارة وتركيب أجزائها المختلفة لتحويلها إلى أعمال فنية.
ويستمد النـّقاش أمثلة النـّقش من رسوم هندسيـّة وأزهار وعصافير وحتى خطوط، ثمّ يقع الحفر بأزميل خاص في حرفية راقية وحركات ابداعيـة دقيقة و تستلهم هذه الرّسوم أشكالها من مراجع معمارية مختلفة منها : البربري الصّرف والبوني والرّوماني والبيزنطي خاصّة بالنسبة لتيجان السواري والأساطين التي تنحت للمساجد والبيوت الفاخرة والقصور وتستوحي عدّة نماذج رسمها من الخطّ العربي.
عند قدوم الأندلسيّين الذين حملوا معهم مرجعية خاصة بهم انتشرت نماذج من النقش مستوحاة من معالم قرطبة واشبيلية وغرناطة وحتى الأسلوب الإيطالي في النقش دخل مدوّنة الإبداع النـّحتي فنجد الهلال والنـّجمة والأزهار وخاصـّة أوراق الزهور والعنب وكأنما هي مستوحاة من أمهات المخطوطات. أمّا التـّيجان فهي مبسّطة الشـّكل، جميلة المنظر ودقيقة الصـّنع. وكثيرا ما تنقش على ناصية الأبواب آيات قرآنية وتعاويذ لإبعاد الأذى وطلب الحماية من العناية الإلاهية.
يستجيب الحرفيـّون إلى طلبات من كل أنحاء الجمهورية سواء للبنايات الخاصّة أو العمومية وقد بعثت لهذا الغرض معامل كبيرة بالمنطقة الصناعية التي أعدتها البلدية , والتي ساهمت في تصدير هذه الحجارة بكمّيات كبيرة إلى البلدان العالم وخاصة بلدان الخليج لترصيع المساجد و أمركا و دول أوربا وتعكس العديد من الأمثلة مدى براعة المهندسين في إدماج هذه الحجارة المنقوشة ضمن البنايات الحديثة مثل مقرّ بلديـّة تونس العاصمة وكذلك مقر بلديـّة نابل الجديد الـّذي هو إنجاز معماري يؤكـّد مهارة البنـّائين والنـّقاشين في الوطن القبلي.