مقالات
طبرقة وبوسالم – غارالدماء
بقلم: سعيد الشعابي
غَيْرَ بَعَيدٍ عَنْ تَقَاطُعِ طَرِيقَيْ جندوبة – طبرقة وبوسالم – غارالدماء، وبالقُرب من منطقة “عين القصير”، وغيْرَ بعيدٍ عن “بُولاّريجيا” المدينةِ الأثريّةِ الرومانيّةِ الواقعةِ إلى الشّمالِ من مدينةِ جندُوبَةَ، يُوجد الموقع الأثريُّ ” شمتُو ” الذي تَرْقُدُ في ثَرَاهُ شواهدُ كثيرة عن الحضارتين النُّوميدية والرّومانية. فلقد مكّنت الحفريّات التي انطلقت مطلعَ سِتّينات القرن الماضي والمُندرِجَةُ ضمن التعاون التونسي- الألماني من اكتشاف بقايا معبدٍ يعود إلى الفترة النوميدية. ولأنّ منطقةَ ” شمتُو ” عمُوما يكاد يرتبط إسمُها بِرُخامِها، فإنّ الدّراساتِ تُشِيرُ إلى أنّ أوّلَ استغلالٍ لهذا الرُّخامِ حدثَ إِبَّانَ فِترةِ حُكم الملِكِ النُّوميدي ” ميكوسون “. أمّا في الفترة الرّومانية، فإنّ ذاتَ الدراساِت التاريخيّة تُشِيرُ إلى أنّ عمليّاتِ تصدير هذا الرُّخام قد شمِلت كافة أرجاء الامبراطورية الرومانيّة وخاصة العاصمة رُومَا. ومن جهةٍ أُخرى، مكّنت الحفْرِيّاتُ الأركيولوجيّة من الكشْفِ عن شَواهِدِ معبِديْن وثَنِيَّيْنِ وآثارِ كنِيسةٍ مسيحيّةٍ يعُودُ تاريخُها إلى القرن السادس للميلاد. بالإضافةِ إلى ثكنةٍ رومانيّة.
يضُمُّ الموقع الأثريُّ ” شمتُو ” كذلك بقَايَا أثريةً تُمثِّلُ وسَطَ مدينةِ ” شمتُو ” في العهد الرومانيّ وتتكوّنُ هذه البَقايَا والشّواهدُ الأثريّةُ من ساحةٍ عموميّةٍ، وبِنايةِ ” البازِيليك “، وقوس النّصر، وحنفِيّةٍ ضخمَةٍ وبعضِ المَتاجِرِ والدّكاكين. غيِر أنّ اللّافِتَ الأبْرَزَ فِي هذا الموقِع، اِحْتِواؤُهُ على مُخَلَّفَاتٍ أثريّةٍ لِقَنْطَرَةٍ أُقِيمتْ غلى نهْر مجْرَدَةَ يعود تاريخُها إلى الفِترة المُمْتدّةِ من القرنِ الأوّلِ إلى القرن السّادس للميلاد. وغير بعيدٍ عن هذه القنطرة تمّ اكتِشافُ دَلَائل طاحونةِ رَحْيِ الحبوب كانت تعمل بالطاقةِ المائيّة التي تُنْتِجُها المياهُ المتدفِّقَةُ من وادِي مَجْرَدَةَ، الأمرُ الذي يجعلُنا نُدرِكُ التقدّم العِلمي الذي بلغتهُ تلك الحضارةُ في ذلك الزّمان.
الجانِب المعماريُّ ومميّزاته تدُلُّ عليه شواهد كثيرةٌ تُبرِزُ مميّزات العِمارَة الرّومانية وكيفيّة تخطيط المُدن وهنْدَسَتِها في ذلك الوقت. ومن أمثِلةِ ذلك وُجود السّوق والمسرَح والحمّام الذي تَصِلُهُ المِياهُ من خزّاناتٍ ضخمةٍ توجدُ خارج المدينة عَبْرَ حَنَايَا تمتدُّ عل مسافة 14 كم ولا يزالُ بعضُهَا بَارِزًا للعِيانِ وأنتَ في طريقِكَ إلى هذا الموقع الأثرِيّ.
تَدَعّمَتِ العِنَايَةُ بالموقع الأثرِيّ ” شمتُو ” بإنجاز المُركّب المتحفِيّ في بِداية تسعِينات القرن الماضي فِي إطار التعاون التونسي الألماني. وهو يحتوي على مُحَاكَاةٍ للطّريقِ الأثريّةِ التي استخدمها الرُّومانُ قدِيمًا في نقْلِ الرُّخام إلى مِيناءِ ” أُوتِيكَا ” عبْر وادي مَجْرَدةَ. وغير بعيدٍ عن هذا المُركّب المتحفِي تُوجدُ بقايَا مَعْمَلِ قَصِّ الرُّخامِ ويرجع تاريخه إلى النّصف الأوّلِ من القرْنِ الماضِي.
فَضاءُ المتحف، يضُمُّ أرْبعَ قاعاتِ عَرْضٍ ومسْرحٍ صغيرِ يتّسِعُ لحوالى مائتَيْ مُتفرّجٍ، حيثُ يُسْتَغلُّ لِتنظيمِ بعضِ التظاهُراتِ الثّقافيّةِ، كما يحتوي المتحف أيضا على قاعةِ عَرْضِ الأشرطةِ الوثائقيّة التي تُعرِّفُ بالموْقِع وبالبلاد التونسيّة خِلال الفِترتيْنِ النُّوميديّةِ والرّومانيّة.
تَجْدُرُ الإشارَةُ أيضًا إلى أنّ هذا المتحف تَتَوَسَّطُهُ إِعَادَةُ بِناءِ الوَاجِهَةِ الشّرقيّةِ من المعْبد النّثوميدي الذي يُمكِنُ مشاهَدَةُ مكانِهِ الأًصلِيّ على قِمّةِ جبَلِ ” بُورْفِيفَة ” غيرِ البعِيد وذلك بعد اِعْتِلاءِ سطْحِ المتْحف.
مكَانُ الموقع الأثريّ ” شمتو ” ساحِرٌ خاصّة أثناء الرّبيع، إذ يمتدُّ على بِساطٍ مخملِيّ أخضرَ تُوشِّيهِ الزهور بألوانها البدِيعةِ التي تُبهجُ النفس وتساعدُك على اقْتِفاءِ أثَرِ القُدامَى بأريحيّةٍ كاملةٍ. غيْرَ أنّ ما يُثِيرُ الشّجنَ هو أنّ الموقِع يُعانِي العدِيد من النقائص خاصّة بعد توقّف أشغال الترميم والكشف والتنقيب ولعلّ أبْرز هذه النقائصِ، اِفْتِقَارُهُ لِسِيَاجٍ يَقِيهِ عَبَثَ العَابِثِينَ !.
شمتو الذي يُجاورُ بولاريجيا، مكانٌ له من الوَقْعِ علَيَّ مَا يجعلُنِي أشعُرُ وأنا فِي رِحَابِهِ أو بالقُربِ منه بِانْجِذابٍ غريبِ إليه، حتّى لَكَأنَّ جَسدِي من ثَرَى ذَاكَ الأدِيمِ !.