السياحة العربية

القصور الصحراوية بتطاوين : ثراء التاريخ في عمق الصحراء التونسية

كتبت / ذهبية بوزيان – تونس

من بطون الجبال بيوتا ثم كلي من كل الثمرات فآسلكي سبل ربك ذللا” سورة النحل الآية69 صدق الله العظيم

يتبادر لذهنك و انت تكتشف وتشاهد القصور الصحراوية بالجنوب التونسي في شكلها وهندستها آيات الله وإعجازه فيها و التي نراها بقلوبنا ونفهمها بأرواحنا وهو ما انقادت إليها عقول سكان الصحراء لتعمل بملكاتها على طاعة الله في تعمير الارض إيمانا وعملا وإبداعا فطريا وفق برنامج منظم ومنظومة دقيقة لا تخطيء وترى فعل الإبداع في روعته التي تلامس الكمال وجماله الأخاذ الذي ياسر العقول و الأفئدة معمارا يروي نمط عيش سكانه وذكاءهم في التأقلم مع الطبيعة والنهل منها.

78131487_1276700792532227_3656950471114883072_n

ولاية تطاوين وعبر التاريخ ليست منارة الأقطاب والفقهاء والأدباء والشعراء فحسب بل هي أيضا اكاديمية هندسية بالفطرة فكما يقول ارسطو ابو الفلاسفة والمفكرين لطلبته بمناسبة كل درس في الفلسفة و قبل الانضمام لحلقته “من لم يكن هندسيا لا يدخل علينا ” فإن أجدادنا من البربر أثبتوا هذه القاعدة العلمية إذ كانوا اقطابا وفقهاء و أدباء وشعراء وكانوا ايضا رجالات هندسة ومعمار ..رجالات نحتت تاريخا في جيوب الطبيعة وحضارة على جباه الجبال وصنعت من بطون الجبال بيوتا صحية للعيش لا تخلو من الرفاهية الطبيعية…

نحت هؤلاء الأجداد القدامى في جوف الجبال الصخور بذكاء فطري وفطنة ورشاد عقل وسداد رأي وحكمة…فأبدعوا قصورا من ” دويرات” رائعة في قمم الجبال هي سكن للروح والجسد على مر آلاف السنين بقيت إرثا ماديا من معمار ومهارات للأحفاد وقيمة حضارية تروي حياواتهم الهادئة وتخلد ايامهم المفعمة بالعمل الدؤوب والسعي لتحقيق أسباب عيشهم اليومية ولياليهم المضيئة بانوار السماء ونجومها لتشهد كل نجمة وكل مصباح زيت قديم على ذكرياتهم وتشاركهم أفراحهم وأعراسهم كعنصر رفيق لايغيب ونديم لا يمكن تغييبه حتى انهم يناجون النجوم ويغازلونها في تعبيراتهم عن الفرح و المسامرات الشعرية والغنائية مما شهد به عليهم الموروث الثقافي من اشعار وأذكار دينية وابتهالات ومدائح وقصص شبيهة بقصص الف ليلة وليلة كانت تؤثث سهراتهم ومسامراتهم .

78337859_1473440899472741_130567912036499456_n

ان مثل هؤلاء المهندسون مولعون بالفطرة بمعانقة السماء في توق للتوحيد و الإعتكاف والعبادة ..عبادة الخالق الواحد الأحد بتطويع الطبيعة و العمل على خلق اسباب وظروف للعيش على بساطتها حققت الرفاهية وكفلت الصحة وآمنت بالحياة وتعلقت بخصوصية المكان وتطويعه “فالمكان أنت من يصنع فيه الحياة ” .

فلا غرابة ان نجد فيهم موحدين طائعين لله منذ اكثر من الفي سنة. فصانعوا هذا المعمار مهندسون أيضا بالفطرة ميالون لنبذ الوثنية تواقون لمعانقة السماء فمجرد الأشكال الهندسية الظاهرية توحي بان الذين اعتمدوا على المكونات الطبيعية المتاحة من أرضهم ومكانهم وما جادت به الطبيعة عليهم فيه يقدسون قيمة العمل الدؤوب، أناس جبلوا على العزة والقناعة فحققوا حدا من ظروف العيش الكريم وحدا آخر من الرفاهية بإمكانيات خصوصية جادت بها الطبيعة عليهم ودون غيرها من الوسائل وهو ما تتوق إليه اليوم معظم شعوب العالم المتحضر وتنشده لمحاربة الضغط اليومي وأمراض العصر و العودة للعيش في أحضان الطبيعة ونبذ كل ما أنتجته الصناعات والكيمياء واقتحم حياة الإنسان محملا بالأمراض الجسدية والنفسية.

79249257_2512620809023128_9222986413216104448_n

هؤلاء الأجداد اتخذوا من بطون الجبال بيوتا كبيوت النحل في شكل هندسي مستوحى من خلاياها اما داخلها فيؤكد ان الحكمة والهندسة منبعها العقل النير والأرواح الملهمة و بأن الطبيعة هبة الخالق للإنسان وأنها كفيلة بدورها أن تهبه الحياة بكامل أسبابها و ما يحتاج إليه للعيش وهذا ما آمن به سكان الصحراء منذ آلاف السنين فكانت قرى القصور الصحراوية التي شيدوها في أعالي الجبال أو في باطن الأرض، والتي تميزت بطابعها المعماري الفريد من نوعه

الناظر من الخارج ومن بعيد يراها حصونا دائرية صممت ليخصص جانب منها للمؤن والجانب الآخر للعيش.

هذه القرى التي تضم القصور الصحراوية والتي إنفردت بها ولاية تطاوين بالجنوب التونسي وعددها تقريبا 150 قصرا منها قصر اولاد سلطان و قصر الحدادة وقصر الدغاغره واشهرها قصر الدويرات: وهو اقدمها إذ يعود تاريخ إنشائه إلى حوالي 2000 سنة ويشهد ذلك على ان البربر هم أول من ابتكر بناء القصر .

يبعد قصر الدويرات حوالي 20 كم علي مدينة تطاوين والدويرات هي جمع لكلمة الدويرة في تونس و تنطق في الشقيقة ليبيا الدوائرة او الدويرات ايضا و هي من المناطق التي تؤم اكثر السكان من اصول أمازيغية في شمال افريقيا فهي الأمازيغية بامتياز بشهادة كل الدراسات الجينية و الأنتروبولوجية المنجزة حول حياة الأمازيغ .

ومجمل القول ان ما ينطبق على الدويرات و شنني من دراسات ينطبق الى حد كبير على معظم سكان الاجزاء الغربية و الجنوب غربية من ليبيا و ذلك لوجود الرابط التاريخي و الديموغرافي المشترك لهاتين المنطقتين عبر العصور وألقاب العائلات الدويرية الأمازيغية الموجودة حاليا في منطقة الدويرات في الجنوب التونسي و منطقة الدويرة في وادي نفد الواقع في ارض هوارة و لواتة و اوربة القديمة في ليبيا كذلك قرى شنني والعائلات المنبثقة عنها

يتكون القصر من أكثر من 200 غرفة كانت تعد لكامل منتسبي العائلة و أبنائها كل يملك غرفة أو غرفتين علي حسب طاقته المادية اما الآن فهو شبه مهدم بفعل قصف المدفعية في أوائل سنين الاستعمار والحرب العالمية الأولى والثانية.

78218405_775820952887069_2404895284455800832_n

القصر منتصب في اعلى جبل الدويرات اي في القمة والتسلق الي هذا القصر صعب علي غير متساكني الجهة ولا يمكن التسلق إليه إلا على الارجل وفي ذلك حكمة قديمة لتفادي الغزو من القبائل الأخري ..

اما في سفح جبل الدويرات فتقع الغيران وهي “جمع غار” حيث طوعوا لإنجازه الطبقات الجيولوجية المتكونة بالتوازي من طبقات صخرية بينها طبقات ترابية ليفرغوا جوفها من التربة و يتخذوا من الطبقتين الصخريتين سقفا وقاعا تنحت وتصقل فيما بعد ويشكل منها وفيها مرافق وتجهيزات اخرى تضاف إليها أشكال و اكسسوار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى