مقالات

أنا هنا، أنا الحرّة التونسيّة العربيّة أنا أمينة على هذا التراث من تاريخ الأجيال في وطني

عبد الوهاب البراري – مكتب تونس –
استقبلتنا مدينة تاجروين من محافظة الكاف بالشمال الغربي من الوطن التونسي برايات متعدّدة الألوان وكأنّها بيارق.
لم يكن من الصّعب علينا الوصول الى موقع المهرجان الأوّل لـ «صوف فريڨا» فقد قادتنا الى المكان قوافل السيّارات وجماعات من النّسوة والأطفال يتقدّمهم بعض الرّجال وكأنّهم فيالق وجهتهم واحدة وغاياتهم متعدّدة، فمنهم من يبحث عن الترويح عن النّفس ومنهم من يريد التخلص من حرارة الطقس في بداية صيف حط رحاله باكرا.
ركنا الحافلة التي اقلتنا من العاصمة التونسية غير بعيد عن مدخل المكان الذي اعد بإحكام، استعملت فيه اغصان الصنوبر والفلين.


تهادت الى مسامعنا ترانيم بعض النسوة ممتزجة بنقرات طبول وأنغام مزامير يعزفها بعض الرجال تحكي اغانيها تراث الشمال الغربي فتعيدنا الى مآثر الجهة من الأغاني الشعبية الخالدة، تحكي لنا تراثا حفظناه عن ظهر قلب، تسارعت الخطى الى الداخل فاستقبلتنا لوحات غاية في الاحكام من مفروشات الكليم والزرابي واكلات تفتح شهيتنا وتنسينا عناء السفر، مأكولات عرضت في أواني خشبية من الزمن القديم رتبتها ايادي نسوة لا يعرف سواهن كنهها، كل قطعة نسيج من الصوف تستوقفنا لنتأمل الوانها الحالمة وتصاميمها التي تخلد ثقافة البربر والامازيغ واصالة العرب والاندلسيين الذين استوطنوا جهة الشمال الغربي من وطننا الجميل منذ قرون خلت. أشكال هندسية رسمت على مساحة من الصوف الأبيض الناصع، وخيوط سوداء داكنة تشق رقعتها البيضاء في احكام هندسي، تتخلل مساحة الكليم وكأنها رسم لأشهر مهندسي العصر، في كل زاوية من الكليم أشكال متناسقة، مثلثات بنيّة وأخرى سداسية الأضلاع ومربعات تزيد المساحة الصغيرة البيضاء جمالا.


تستقبلك الحرفيات بابتسامة زاد من جمالها حسن الوشم الأزرق الداكن على جبين يحكي تاريخ الأمازيغ والبربر.
لم تنتظر احداهن سؤالي الأول فبادرتني بالحديث عن كليم نسجته أناملها السمراء في أمسياتها ولياليها دون كلل او ملل وهي تدندن بأغنيات من الزمن الجميل وبقايا أبيات من شعر الأجداد، ترانيم تنسيها كفاحها من أجل لقمة عيش طاهرة من عرق جبينها، لم تؤثر فيها الأيام ولم ترهقها الليالي، استرسلت في الحديث عن معاناتها وشوقها لأيام رخاء تنقلها من وضعها الحالي الى حياة أفضل، حياة تضمن مستقبلا مشرقا لأطفالها ونجاحات تتباهى بها بين نساء الحي وتفتخر بمسيرة نضالها من أجل جيل ينعم بسعادة طالما حلمت بها في هذا الوطن الرائع.

قاطعت حديثنا زميلة لها وكأنها تريد ان تأخذ نصيبها من الحديث، حرفية تجاوزت عقدها الخامس لم تؤثر فيها الأيام فلم تجد التجاعيد موطنا لها على خديها وجبينها، زادتها اصالة وجمالا كوفية فلسطينية نشرتها على كتفيها وكأنها تحاكي نضال حرائ

ر القدس ويافا والخليل، بادرتني بالحديث من مرقوم نسجته في ليالي سهرها وامسيات ايامها، راحت تحدثني عن جزئيات نسيجها وخطوطه والوانه بعشق الرسام للوحته الزيتية، أخذني حديثها الحالم الى تخيل ابداعها وهي خلف منسجها الخشبي كأنها ملكة على عرش سلطانها.


كانت كل كلماتها توحي بعشقها لمنسوجها غير ان حديثها سرعان ما تحول الى شكوى ولوم، شكوى من صعوبة الحصول على صوف معد للنسيج فخيوط الصوف لا تتوفر في محيطها وفي القرى المجاورة لتاجروين، ولوم على النّساء من أهل المنطقة اللواتي عزفن عن الاهتمام بهذا العمل الذي لم يعد يؤمن لهن لقمة عيش كريم، كل هذا لم يثن محدثتي عن حبها لعملها فراحت توفر تلك الخيوط من منطقة قصر هلال في محافظة المنستير، اختارت ان تتجشم عناء السفر وطول المسافة على ان تتخلى عن حلمها.
خاطبتني وهي تحاول إخفاء حسرتها على غياب الاهتمام المنشود من طرف بعض الجهات المسؤولة فلم تطلب سوى إيصال رسالتها مع يقينها ان هذا الوطن لا ينسى تضحيات أبنائه والحرائر من نسائه الكادحات، كانت ابتساماتها وبريق عينيها يؤكدان ايمانها بذلك الامل والتمسك به. لم أجد بدا من التعاطف معها وإبلاغ رسالتها الى من تريد فتلك أمانة لم أبخل لإيصالها الى من يهمه أمر الوطن وحرائره.
غادرتها وكم كنت أتمنى البقاء في حضرتها ومشاركتها أمانيها واحلامها.
تخطيت بعض المدارج المنحوتة في الصخر لأجد نفسي على مصطبة صخرية بيضاء كأنها ركح من زمن الرومان في تاجروين.


كان الحاضرون مشدودين لما يدور على ذلك الركح، بعض الرجال مختلفة أعمارهم وامرأة من زمن الرجولة والنضال، أمام كل واحد منهم شاة ماسكين بمقص كبير يعالجون به صوف الشاة، يقصونه في حذر فلا يصل المقص الى الجلد يفصلون الصوف عن الحيوان المستسلم لعمليّة الجز وكأنه في حضرة طبيب متمرس بخبرة عشرات السنين، شدّ انتباه الحاضرين مشاركة احدى حرائر المنطقة في عملية الجز التي كانت منذ زمن بعيد حكرا على الرجال فقط، كان مقصها يسافر بين خصلات الصوف في حذر وكأنه مشرط جراح من زمن ابن سيناء… ابتسامتها لا تفارق محياها المضيء وكأنها تقول: أنا هنا، أنا الحرّة التونسيّة العربيّة أنا أمينة على هذا التراث من تاريخ الأجيال في وطني، صوت المقص على ذلك الركح يحاكي سنفونية لم يؤلفها موزارت أو فاردي، معزوفة آتية من رحم هذا الوطن تتخللها تمتمات اعجاب من تحلق حولها.


كان من بين الحاضرين شاب وسيم مشدود الى ما يدور أمامه إنه وزير السياحة في هذا الوطن، قبل أن يغادر المكان استأذنته في طرح سؤال عليه فرحب بذلك، سألته عن دوره كوزير للسياحة في سبيل المحافظة على هذا التراث الحَيٍّ، أجاب في نبرة الواثق بما يصرّح: إنها أمانة أتحملها وكلّي عزم على تطويرها والمحافظة عليها، فمن خلالها أحافظ على تاريخ هذا الوطن حاضره ومستقبله، ثقافته وتراثه ولن أدخر جهدا في سبيل إنجاح مثل هذه التقاليد ، بل أكثر من ذلك سأسعى لتذليل الصعاب أمام هؤلاء العاملين في هذا القطاع أمناء على تراثنا والمحافظون عليه والساهرون على تمريره لأجيالنا القادمة.
لم أجد أمامي سوى شكره على رسالته وشعوري بالاطمئنان على موروث الوطن وتجذره في ثقفتنا وهويتنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى